قصة قصيرة:
***
أسرار الماء
غاض الماء، ظهرت القيعان الطينية للغدران، وانكشفت بقايا عظام الغرقى من حيوانات وبشر حادة كأنها تحذرهم من الكارثة المقبلة،خلت بيوت القرية من قطع الخبز الجافة، اشتدت أيام الجوع، أصبح هناك سعر للقطط والكلاب، من ظفر بها فقد ظفر بوجبة شهية، وتم القضاء على جميع الدواب من حُمر وبغال.
الأب لم يتجاوز الأربعين، جاف الشفاه في أسى واكتئاب، تطل من نظراته لوعة وشجو دفين، وقد ارتسمت على جبهته وحول شفتيه غضون جاءت قبل أوانها مبكرة لشدة حياة المتاعب والشظف التي يحياها،وبدا كأنه شيخ ناهز التسعين، عنقه مجموعة عروق مغطاة بجلد، يداه خاليتان من مزعة لحم، يرتدي جلباب أبيض استحال لونه من كثرة الاتّساخ، وقد تراكم عليه غبار السنين، يمشي حافي القدمين، عاري الرأس؛ كل هذا وقد ترى في وثبته وحركته شيئًا من السهوم والوجوم، والخفة المستحبة لا تلبث كثيرًا حتى تنقلب إلى انقباض ولوعة، ولعل خفة الحركة والقفز تتملكه عندما ينسى نفسه وما حواليه، ونظرة الأسى والاكتئاب تعتريه عندما يذكر ألمه وبؤسه. أما الأم فعجوز شمطاء وهي لم تكمل عقدها الرابع بعد،تعرض وجهًا قد رسمت عليه الشيخوخة خيوطها الساخرة، تمشي في أسمال بالية،تحمل على ذراعها هيكلًا بشريًا وهو صبيها، ويمسك بثوبها هيكل بشري آخر، ويسمع للهيكلين أنينًا يتبادلانه كأنهما ليس من عالم النواطق، وهي تمسح على رأسيهما بأصابعها الهيكلية، فيزدادان أنينًا، وهما لا يقويان على البكاء، لا دموع ولا صوت، فمن أين تأتي الدموع وهما لم يتجرعا الماء منذ أمس، ومن أين يأتي الصوت وهما لم يزدردا يومين كاملين قطعة خبز جافة.
أضناهم السير،نزلوا تحت شجرة شبه جافة، متدلية الأغصان في أسى واكتئاب وصبر ووحشة لا تخالطها بشاشة أو يمازحها فرح،الأب ينظر إلى ابنيه تارة وإلى قربة الماء التي كانت أمل حياتهم، فأصبحت فارغة، ثم يحول بصره من هذا ومن ذاك ويأخذ رأسه بين يديه وهو يحدّق في الأفق البعيد، كأنما ينتظر رسول أمل يحمل إليهم الحياة، أو يتأخر عنهم قليلًا، فيصبحوا عظامًا نخرة،بدت من على البعد قطع سحاب متفرّقة، رفع بصره إليها كأنما يستسقيها ويرتجيها،أحس برذاذ المطر يهطل لأول مرة منذ أكثر من عام ونصف،لكنه على مسافة منهم، ازداد حزنه، إلا أنه حزم أمره بالذهاب إلى هناك ولو حبوًا.
عاد بالماء، وقف حيران وسط شبه الأموات، نثر قليلًا من الماء على وجوههم، فاقوا مذعورين، جرّعهم قليلًا قليلا حتى دبت فيهم الحياة.ما أعظم الماء إنه الحياة بعينها، حمل الأب الأمتعة الشحيحة على ظهره، وحملت الأم الصغير وقادت الآخر، وساروا يترنّحون بأجسادهم الهزيلة كشراعٍ تتلاعب بها الرياح، وأقدامهم تغوص في الرمال فتزيدهم مشقة على مشقتهم. كادت الشمس أن تودّعهم بعد أن صبت عليهم أشعتها النارية المتوهجة،عندما وصلوا معسكر الغوث الذي سبقهم إليه غيرهم من مشردي الجفاف والتصحّر.
***
بقلم الكاتب: أحمد سليمان أبكر