الأزمة الروسية الأوكرانية واستعراض القوة
قراءة في الحصار الأمريكي على روسيا
نسيم قبها / مدير مركز ذرا للدراسات والأبحاث فلسطين
نائب رئيس مجلس الكتاب والأدباء والمثقفين العرب فلسطين
عضو اتحاد الكتاب الفلسطيني
إن الأحداث التي أساسها صراعٌ عنوانُه المصالحُ الحيوية الروسية، والسياسات الغربية ، تتسارع بشكل لافت على الحدود الروسية الأوكرانية.
إذ تراقب روسيا بحذر وقلق ما يقوم به القادة الأوكرانيون فيما يتعلق بتوجهاتهم الحالية والمستقبلية تجاه العلاقة مع أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وكذلك مسألة انضمام أوكرانيا إلى الناتو، بينما تنظر أوكرانيا بقلق شديد إلى ما تراه انتهاكًا لسيادتها بضم روسيا لشبه جزيرة القرم وفقًا لاستفتاء مارس/آذار 2014، والتي كانت جزءًا من أراضيها قبل ذلك. وكذلك الصراع الدائر في دونباس، ولوهانسك، وهما منطقتان من أراضيها أعلنتا انفصالهما عنها بتحريض روسي، واعترف الدوما مؤخرًا باستقلال دونباس.
والجديد في هذه الأزمة، هو الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية للضغط على أوكرانيا، وتهديدها بشأن سعيها للانضمام لحلف الناتو وإرخاء أذنها للولايات المتحدة، وهو الأمر الذي طرح تساؤلات ملحة، منها احتمالية انفجار الوضع وتحوله إلى حرب كبرى.
أما بداية الأزمة الحالية فتعود إلى 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 عندما أوقف الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا في ذلك الوقت فيكتور يانوكوفيتش الاستعدادات لتنفيذ اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وما تبع ذلك من تظاهرات واحتجاجات واسعة النطاق، وتفاقم للوضع في المناطق الشرقية والجنوبية ذات الكثافة السكانية من أصول روسية داعمة للرئيس يانوكوفيتش.
ومع اشتداد الاحتجاجات المدعومة أميركيًّا، وتحولها إلى ثورة كبيرة أدت إلى عزل الرئيس في 22 شباط/فبراير 2014 من قِبل البرلمان، وفراره، وتعيين رئيس برلمان أوكرانيا ألكساندر تورتشينوف بدلًا عنه، سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم وضمتها للاتحاد الروسي في منتصف آذار/مارس 2014 في واحدة من أكبر عمليات ضم الأراضي التي عاشتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، أعقبها نشوب حرب في أوبلاست دونيتسك ولوهانسك أوبلاست بين الانفصاليين الموالين لروسيا والحكومة الأوكرانية.
وقد ردت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على روسيا نتيجة غزوها للقرم، لكن العقوبات لم تترك أثرًا فعالًا على الاقتصاد الروسي، بل واصلت روسيا العمل على امتلاك أداة ضغط من جهة، ونافذة لبناء الثقة مع دول أوروبا لتبديد مخاوفهم الأمنية وسد ذرائع الولايات المتحدة بخصوص مخاطر العلاقة الأوروبية مع روسيا من جهة أخرى، وذلك من خلال مشروع خط أنابيب “نورد ستريم 2” الذي يجعل ألمانيا تعتمد على الغاز الروسي رغم الصعوبات والعراقيل السياسية كالأزمة الأوكرانية التي هندستها الولايات المتحدة لمنع التفاهم الروسي الأوروبي وإبقاء حالة عدم اليقين سائدة بينهما.
والحقيقة أن روسيا تمكنت من إدارة الأزمة وتلافي التصعيد مع أوكرانيا، طيلة السنوات السابقة، إلا أن التحركات الغربية وتحريض أميركا لأوكرانيا على استفزاز روسيا بالخروقات العسكرية في الشرق والإصرار على إدخالها حلف الناتو، بل والنص عليها في دستور البلاد، كل ذلك أشعل فتيل الغضب لدى روسيا، وجعل بوتين يحشد قواته على حدود أوكرانيا من ثلاث جهات، في الشمال والشرق والجنوب، مما جعل الأزمة قابلة للانفجار متى أرادت أميركا توسيع الفجوة بين روسيا وأوروبا وبخاصة ألمانيا وفرنسا. وهو الأمر الذي فسّره مراقبون كثيرون بأنه غزو عسكري روسي وشيك، حيث تحركت القطاعات العسكرية الروسية لآلاف الكيلو مترات، إلى الحدود الأوكرانية وشبه جزيرة القرم وجمهورية بيلاروسيا، وبأعداد تصل إلى حوالي مائتي ألف جندي بحسب واشنطن.
أما اتفاقا مينسك فلم يتم تنفيذهما فعليًّا، وبعد تصويت الدوما على استقلال دونباس، لم يعد لهما أي معنى، رغم إصرار الطرفين على تنفيذٍ كاملٍ لـ “اتفاق مينسك” لعام 2015، والذي يتضمن إضفاء الشرعية الأوكرانية على الأراضي التي مزقتها الحرب في إطار النظام السياسي لأوكرانيا كما تريد ذلك أوكرانيا، بينما تصر روسيا على استقلال دونباس، وصوتت فعليًّا على ذلك.
والدافع لهذا السلوك الروسي هو أن روسيا تستشعر الخطر فيما يتعلق بالسياسات والسلوكيات التي تنتهجها أوكرانيا، حيث تسعى روسيا لإثبات نفسها بوصفها لاعبًا جيوسياسيًّا وجيواستراتيجيًّا في منطقة لطالما اعتبرت ضمن المصالح الحيوية لها؛ من ضمنها أوكرانيا. وبالتالي إذا ما تم تهديد هذه المصالح بشكل فعلي؛ فإن روسيا قد تستخدم القوة في مواجهته، وفرض انفصال شرق وجنوب شرق أوكرانيا حتى جزيرة القرم بالقوة. كما أن روسيا قد غيّرت من رؤيتها لمصالحها في أوكرانيا، لتتعدى رفض عضوية الأخيرة في الناتو إلى رفض التعاون الدفاعي المتزايد بين أوكرانيا والغرب بشكل كلي، والمطالبة بتنفيذ تعهد الغرب بشأن الحضور العسكري في بولندا ودول البلطيق، في الوقت الذي تسعى فيه إلى مراجعة الاتفاقات والتسويات التي أبرمت بعد الحرب الباردة، ومن ضمنها استعادة المنظومة الإقليمية ليكون لها دور في الأمن الأوروبي، وبالتالي تريد روسيا ضمانات غير مشروطة لأمنها اليوم ومستقبلًا، ولن تقبل بتمدد الناتو شرقًا ليشمل أوكرانيا كما قال بوتين. إذ إن التهديد المباشر الذي تخشاه روسيا هو توجه أوكرانيا نحو المؤسسات الأوروبية للموافقة على انضمامها للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ومطلب روسيا الرئيس هو منع هذا الانضمام، أو استضافة أوكرانيا بنية تحتية للناتو على أراضيها.
أما الإطار الأبعد للمصالح الروسية فيتمثل في إعادة ربط الدول التي كانت تشكل في السابق الاتحاد السوفييتي قبل انهياره، حفاظًا على مجالها الحيوي الذي بات يتآكل بفعل الاختراق الأميركي، ويُعدُّ ذلك أمنًا استراتيجيًّا للجانب الروسي، وبخاصة للرئيس فلاديمير بوتين، الذي يهدف إلى إبقاء أوكرانيا في الدائرة الاستراتيجية الروسية، ويعزز ذلك أن لدى روسيا روابط اجتماعية وثقافية واقتصادية مشتركة مع أوكرانيا.
أما من جهة المصالح الأوكرانية فإن أوكرانيا تمثل جسرًا بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وهذا الموقع الجغرافي قد يجعل منها أداة وصل بين روسيا وأوروبا أو أداة عزل. وتبرز المصالح الأوكرانية في التخلص من النفوذ الروسي على السلطة ورأس المال في أوكرانيا، بالإضافة إلى التوجه نحو الغرب، والحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وعلى الرغم من أن البرنامج الانتخابي للرئيس الأوكراني زيلنسكي تعهد بالحوار والتفاوض مع روسيا، والسير في النهج الدبلوماسي، وتنفيذ اتفاقات مينسك الخاصة بمنطقة دونباس في جنوب شرق أوكرانيا، إلا أنه غيّر نهجه عام 2020 تحت ضغط الفوضى الداخلية، وزيادة النزعة القومية التي تغذيها الولايات المتحدة في دول شرق أوروبا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.
كما أن لدى أوكرانيا هواجس متعددة من روسيا، ومنها خشيتها من احتلالها بشكل كامل، ولذلك تثير مخاوف الغرب من توسع روسيا، وتطالبه بفرض العقوبات عليها، وترى أن هذه العقوبات ستسهم في إضعاف روسيا، وبالتالي مواجهتها لصراعات قومية واجتماعية داخلية تُشغلها، وتأمل أن يسهم ذلك باسترجاع القرم والمناطق المتمردة وعلى رأسها دونباس.
ومن جهة أخرى فإن لدى أوكرانيا مطالب تتعلق بحرية الملاحة، بعد واقعة احتجاز روسيا ثلاث سفن تابعة للبحرية الأوكرانية وطواقمها، بحجة دخولها المياه الإقليمية الروسية بشكل غير قانوني؛ وهذا من الأسباب التي دفعت أوكرانيا لطلب عضوية حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وترى أن مستقبلها مع الأوروبيين، حيث إن انضمامها للاتحاد سيوفر لها كثيرًا من المزايا الاقتصادية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي، كما يوفر لها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي المظلة الأمنية وحماية وجودها، ويعزز موقفها التفاوضي مع روسيا بخصوص النزاع في القرم المحتلة، والمناطق المتمردة وهي نقطة الخلاف الأهم مع روسيا، التي ترى بدورها أن اقتراب الناتو من حدودها يمثل تهديدًا استراتيجيًّا لأمنها القومي.
أما من حيث الدور الأميركي في الأزمة فيندرج في إطار تحجيم روسيا، مع إبقائها مصدر تهديد لأمن أوروبا. وإن كانت أميركا تسعى في الظاهر لإيجاد شكل من أشكال الاستقرار الاستراتيجي بينها وبين روسيا، حيث اجتمع الرئيسان بوتين وبايدن أكثر من مرة، ضمن جهود مستمرة لإقامة علاقة مستقرة.
ويبرز الدور الأميركي في الأزمة الأوكرانية من خلال تعزيز الولايات المتحدة وبريطانيا وبقية دول الناتو شراكاتها مع أوكرانيا، وتزويدها للجيش الأوكراني بأسلحة أميركية.
ويُعَدُّ الصراع في أوكرانيا من أبرز مظاهر الخلاف بين روسيا والولايات المتحدة، ولذلك يحاول بايدن بل ويطالب بوتين بأن يضع ملف أوكرانيا على طاولة بحث العلاقة الأميركية الروسية على نطاق أوسع في إطار “الاستقرار الاستراتيجي”.
ولا يخفى أن الموقف الأميركي من الأزمة الروسية الأوكرانية يكتنفه المكر والخداع، ففي الوقت الذي ترفض فيه أميركا الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية، وتهدد روسيا بعقوبات اقتصادية قاسية في حال أقدمت على خطوة تتحدى فيه الإرادة الدولية، فإنها لم تتحرك بشكل فاعل لحماية أوكرانيا من الغزو المحتمل، بل عملت على إجلاء دبلوماسييها ومواطنيها من أوكرانيا، في خطوة فسرت بأنه تخلٍ عن أوكرانيا؛ لتواجه مصيرها، والاكتفاء بدعمها عسكريًّا، ووضع خطوط حمراء فيما يتعلق بالغزو؛ لتعميق الشعور الأوروبي بالخطر الروسي والتأكيد على دورها في حماية أوروبا وحاجة الأوروبيين لحلف الناتو؛ ولهذا رفعت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مستويات التأهب لقواتهما المسلحة، ونشرت قوات الناتو على طول الحدود مع بيلاروسيا، كما أرسلت صواريخ “جافلين” الأميركية المضادة للدبابات إلى أوكرانيا، وسلّمت البحرية زورقي خفر سواحل أميركيين، بينما شرعت بريطانيا في بناء قاعدتين بحريتين لأوكرانيا.
ومع كل ذلك فإن إرسال قوات عسكرية أميركية لمواجهة روسيا هو خيار مستبعد، وقد استعاضت عن ذلك بأن دفعت المزيد من القوات إلى دول الجناح الشرقي بالحلف لتعزيز دوره في أمن القارة الأوروبية وتعميق تبعية أوروبا الشرقية لأميركا.
أما الموقف الأوروبي من الأزمة فيتأرجح بين الدعوة للحل الدبلوماسي والتهديد بعقوبات، والتحذير من مغبة الغزو وعواقبه، وفي حالات أخرى تسود العلاقات بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي ظواهر طرد الدبلوماسيين، كما لاحظنا ما جرى بين ألمانيا وروسيا إثر مقتل معارض شيشاني، كما تسعى كلٌ من فرنسا وألمانيا لخفض التوتر خشية انعكاس الأزمة على مصالحهما، فيما تتسابقان على قيادة أوروبا المنقسمة في مواقفها حيال العلاقة مع روسيا.
وفي ضوء التصريحات الأوروبية، فإنه قد يقوم الأوربيون بتقليل الاعتماد الاستراتيجي على الغاز الروسي إرضاءً لأميركا، واللجوء إلى العقوبات في مواجهة أي هجوم روسي على أوكرانيا. وإن كانوا يفضلون الحل الدبلوماسي على المواجهة بما يضمن وحدة أوكرانيا. ولهذا وعلى مدار الأزمة طرح الاتحاد الأوروبي نفسه بوصفه وسيطًا بين روسيا وأوكرانيا، وقادت فرنسا وألمانيا محاولات توسط، والإشراف على وقف إطلاق النار، حيث تشكلت ما عرف برباعية النورماندي عام 2014 وتضم كلًا من روسيا وفرنسا وألمانيا وأوكرانيا.
ومن المتوقع أيضًا أن يشارك الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات صارمة ضد روسيا في حال قيامها بهجوم ضد أوكرانيا، ومن هذه الإجراءات، قد يكون فصل النظام المصرفي الروسي عن نظام الدفع السريع الدولي، وإرجاء تشغيل خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” الروسي في ألمانيا، وهو المطلب الأميركي الذي من شأنه أن يعرقل الوئام الألماني الروسي، والذي أكدت عليه وكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند، عندما قالت في إيجاز صحفي لوزارة الخارجية في 27 كانون الثاني/يناير: “إذا غزت روسيا أوكرانيا بطريقة أو بأخرى، فإن نورد ستريم- 2 لن يمضي قدمًا”.
أما ما هو متوقع حدوثه خلال الفترة القادمة، فإن القادة الروس قد يصلون إلى قناعة بأن استخدام القوة اليوم سيكون أقل كلفة من غد، إذا ما أصبحت أوكرانيا عضوًا في حلف الناتو، ومن ثم فإن خياراتهم محدودة في الحفاظ على مصالحهم، رغم أن استخدام القوة لن يكون سهلًا. وقد يلجأ بوتين إلى استعراض القوة في نطاق محدود في حالة انسداد الأفق السياسي وعدم توصل روسيا للتسوية المطلوبة، ويضطر إلى اجتياح شرق أوكرانيا ليتخذ منه ورقة ضغط في المفاوضات، وفرض تسوية توقف ذهاب أوكرانيا إلى المعسكر الغربي. وفي المقابل تحاول الولايات المتحدة جر روسيا لعمل عسكري، وتأزيم الموقف على نحو يحمل رسالة إلى روسيا مفادها أن الإسراع في الغزو أفضل من تأخيره حتى تبدد ثقة الأوروبيين ببوتين، وتُعمق النزعة القومية المعادية لروسيا في أوكرانيا وفي المجال الحيوي الروسي برمته.
ومن جهته يطمح بوتين من خلال الأزمة أن يعزز مكانة روسيا سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، وبخاصة بعد نجاحه في سوريا، وجورجيا، والأزمة الأرمنية الأذربيجانية، وإعادة الأمن لكازاخستان. وبالتالي يسعى بوتين إلى إعادة ضبط الموازين بواسطة القوة في حال الفشل في التوصل إلى تسوية مرضية مع أوكرانيا والولايات المتحدة. وهذا قد يدفع روسيا إلى محاولة الانفكاك من هذا المسار المفخخ عبر استخدام القوة لتعديل التوجهات الأوكرانية ومحاولة رفع العقوبات الغربية، وبخاصة وأن روسيا سبق وأن استخدمت القوة في جورجيا وملدوفا وأوكرانيا وأعاقت المخططات الأميركية في تلك الدول إلى حد كبير.
ولكن إذا شنَّت روسيا الحرب على أوكرانيا، فمن غير السهل أن تنهيها، وربما لن تصل إلى السلام الدائم؛ لأن الحرب قد تتطور إلى مواجهة طويلة الأمد، وبخاصة إذا بقيت ما يعرف جغرافيًّا بأوكرانيا الغربية، وبإمدادات من الغرب؛ أي قد تتحول إلى حرب استنزاف، إذا ما جرى تزويد أوكرانيا بالأسلحة والمعدات الغربية المتطورة. كما قد تواجه روسيا عزلة دبلوماسية حقيقية، وبخاصة إذا بدأت الحرب وتحولت إلى صدام كبير ومفتوح بين قوات الدولتين الروسية والأوكرانية، وسينظر إلى الأولى على أنها الطرف المعتدي. ولذلك فإن روسيا تفضل إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه كخيار أقل ضررًا من المواجهة العسكرية، إن لم يحدث ما يجبرها على القيام بعمل عسكري محدود. إذ يصب الوضع القائم في مصلحتها، وبخاصة إذا ما تم الاعتراف باستقلال دونباس، وإن كان ذلك كله يغذي حالة عدم اليقين بشأن علاقتها مع أوروبا.
وعليه فإن السياسة الأميركية تجاه روسيا لا تزال ثابتة، وهي حصار الأخيرة في مجالها الحيوي؛ لجعلها دولة إقليمية كبرى، وتطويق علاقتها بالصين وألمانيا وفرنسا تحوطًا من الإخلال بالموقف الدولي.
ورغم أن وجود روسيا قوية متاخمة لأوروبا مصلحة أميركية، لكنها لا بد وأن تكون قوية بالقدر الذي يلزم لإيجاد التوازن في أوروبا، وإبقاء الأخيرة تحت مظلة الحماية الأميركية مع دفع أوروبا تكاليف هذه الحماية.
والأزمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا، هي في الحقيقة أزمة بين روسيا وأميركا التي تريد حصار روسيا في مجالها الحيوي، وتقليص اعتماد أوروبا على روسيا في الطاقة، ودفع الدول الأوروبية لصرف النظر عن دعوات فرنسا بإيجاد قوة أوروبية مستقلة عن حلف الناتو، وتحويل حلف الناتو لمنظمة دولية لحفظ الأمن والسلم الدوليين.
وفي الوقت الذي تدافع فيه روسيا عن مجالها الحيوي، تقوم أميركا بوضع أوروبا في مواجهة روسيا، وإذلال فرنسا، حتى تتراجع عن فكرتها بإقامة قوة أوروبية مستقلة.
إن الأزمة الحالية تحولت إلى استعراض للقوة الروسية وتخويف أوروبا، وهذا الذي تريده أميركا؛ لتحقيق أهدافها. وإن كان اتفاق مينسك قد أعطى أوكرانيا الحق في استعادة السيطرة الكاملة على حدود الدولة من قبل حكومة أوكرانيا في جميع أنحاء منطقة الصراع، لكنه ظل حبرًا على ورق، وبالتالي ظلت هذه الأقاليم متمردة على الحكومة المركزية، ومع ذلك لا تزال روسيا تفكر بفصل هذه الأقاليم، واعتبارها مستقلة عن أوكرانيا. وبخاصة بعد تصويت الدوما الروسي (البرلمان) على الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، واستقلال دونباس عن أوكرانيا. وإن نجحت روسيا في انتزاع موافقة دولية على هذه الخطوة فسينذر ذلك بتقسيم أوكرانيا وهو ما تشتهيه روسيا وتخشاه أوروبا.