بقلم : بوشعيب حمراوي
لن أخوض فيما يحدثه حكم الإعدام من جدل وتباين في الرؤى والأحكام، داخل المجتمعات بمختلف ثقافاتها وعقائدها، وما تختزنه وتختزله من إرث حضاري وديني، ولن أغوص في عمق هذا النوع من (القتل المرخص قضائيا ودستوريا)، والمصنف ضمن (أبغض الحلال). حيث تحاول معظم محاكم العالم تجنبه، كما تماطل مجموعة من الدول في تنفيذه. بل ويبادر العديد من قادة الدول،إلى تحويله لحكم بالسجن المؤبد… وهي إشارات تبرز بجلاء ألا أحد مستعد للبصم بكل أصابعه على أن حكم الإعدام، يملك شرعيته الإنسانية والروحية. ليكون عقابا مناسبا، لمرتكبي بعض أنواع الجرائم الخطيرة والمتوحشة.
لكنني سأكتفي بالتأكيد على أن (حكم الإعدام)، لا مكان له ضمن أهداف ومرامي السلطة القضائية، المتمثلة في الوقاية والإنصاف والزجر والعقاب والإصلاح والتقويم.. ببساطة لأننا لا نملك أية معايير لتصنيف(حكم الإعدام)، ضمن خانة العقوبات المفروض إنزالها باستحقاق على المجرمين.
كما أن القضاة لا يتوفرون على الشروط والمعايير اللازمة ، ليقيسوا بها مدى تناسب (حكم الإعدام) الصادر في حق مجرم ما، بفظاعة الجرائم المرتكبة من طرفه. لسبب بسيط هو أنهم لا يدركون مدى أثر (حكم الإعدام) على الشخص المعدم، الذي انتزعت روحه بالقوة بأمر منهم. وتم إنهاء تواجده فوق الأرض، بتأشيرة (القتل المرخص). وبالتالي تم حفظ ملف الجريمة على أساس أن الكائن البشري لم يعد كائنا.
فالقضاة المؤمنون بوجود حياة ما بعد الوفاة، أو الذي لا يؤمنون بذلك، يجهلون مصير المجرم الذي نفذ في حقه حكم الإعدام.. لأنهم ببساطة سمحوا لأنفسهم بالخوض في عوالم أخرى دون أدنى معرفة بها.
فكما يدرك بعض المؤمنون بعالم الآخرة، حيث المحكمة الإلهية، التي تحيل على الجنة والنار، لا مجال فيها للكذب والبهتان. محكمة تعد سجلا كاملا لكل تجاوزات البشر بأدق تفاصيلها. يدرك البعض الآخر أن لا حياة ولا عالم بعد الوفاة البشرية. وكلاهما يدركون بأن مستوى ممارساتهم الدنيوية بكل تجلياتها، تقف عند عتبة القبر. فكما تسقط كل التهم بمجرد وفاة الشخص المتهم. فإن (حكم الإعدام)، يعفي المعدم من المتابعة والعقاب المفروض أن يكون فوق الأرض لا تحتها. والمفروض أن يعيشه لا أن يموته ويبعد عنه.
كما أن هناك من يسعى وراء (الإعدام)، وعندما يتم إعدامه، سيكون القاضي قد لبى طلبه. ويكون قد أراحه، لأنه خرج ليرتكب أبشع الجرائم، هو مدرك بنهايته المنتظرة. التي خطط وبرمج لها، ووقع على مصيره المحتوم. وعندما يخرج الإرهابي متحوزا لحزام ناسف، وفي نيته قتل الأبرياء بتفجير نفسه. فإن محاولته قد تصيب، وتنهي حياته وحياة الأبرياء، وقد تخيب فيعتقل وتتكفل الدولة بتلبية رغبته في الموت، بالحكم عليه بالإعدام.
فهل يمكن اعتبار إعدام المجرم عقوبة في حقه. ؟ .. ذلك المجرم البالغ والعاقل الذي دبر وخطط لجرائمه .. هو راغب في تلك النهاية التي لا يعتبرها مأساوية .. بل هي نتيجة حتمية لأفعال قام بها .ألا تكون الحياة بالنسبة لذلك المجرم أشد عقابا له من الإعدام؟؟؟ . وهل هذا يعني أنه أنصف المتضررين الأحياء منهم والأموات ؟
يجب الإدراك بأن أهمية العقاب في أن يعيشه المعاقب بروحه وكل أحاسيسه وجوارحه. وأن يحكي عنه بمرارة ولو مع نفسه في خلوته السجنية. وأن يتابع الرأي العام ما يعيشه المعتقل
فإن كان العقاب هو انتزاع روحه .. فبموته لم يعد هناك وجود لتلك الشخصية المجرمة ولم يعد بالتالي وجود لأي عقاب ولا لأية قضية أساسا.
سبب آخر يجعل (حكم الإعدام) غير صائب. ويتعلق بغياب فرصة التصحيح عند الوقوع في الخطأ. لأن الميت لا يعاد إلى الحياة.. فالقاضي، شأنه شأن كل البشر، لا يمكن أن يمتلك الحقيقة المطلقة والكاملة. وهو ما يعني أن القاضي معرض للوقوع في الخطأ (معلومات خاطئة أو ناقصة، استنتاجات غير صائبة، أدلة وقرائن مفبركة.. ). وعلى القاضي ألا يقرر (قتل النفس)، بناء على حقائق (وإن تجلت بوضوح)، فإنها معرضة للخطأ البشري. والحكم بإنهاء حياة إنسان.. يعني القضاء بوضع لا يمكنك تصحيحه في حالة اكتشاف الخطأ.
إن (حكم الإعدام)، لا يمكن تصنيفه ضمن خانة العقوبات، بقدر ما يمكن اعتباره فرصة للتهرب من العقاب. بتهريب الشخص، والتعجيل برحيله من عالمنا إلى عالم آخر مجهول. هو ضعف وقصور للسلطة القضائية، المفروض أن تجتهد في إيجاد عقوبات بديلة كفيلة بالحد من الجريمة، وتخليق الحياة العامة. وأن تعيد للسجون أدوراها في التهذيب والإصلاح. بتنقية وتطهير السجون من فساد المخدرات والجنس والخمول. وتكتيف برامج التربية والتعليم والتكوين المهني وفرض الأعمال الشاقة ضمن الأحكام القضائية الموجبة للردع والتقويم..
أكيد أن بعض أطباء الجراحة لا يترددون في إجراء عمليات بتر لأي عضو فاسد من جسم الإنسان. بعد تأكدهم من خطورته على باقي أعضاء الجسد. وأنه بقاؤه يعني انتقال العدوى . فهل الإعدام هو الحل الوحيد ل(بتر) المجرم من الحياة البشرية. وإبعاده حتى لا يكرر المجرم جرائمه ؟… ألا يقوم السجن بمهمة (الإبعاد والعزل)، وأن الحل هو سجنه وتعذيبه بالأعمال الشاقة. لعيش العقوبة، وتستفيد منه الدولة كآلة بشرية في خدمة الصالح العام. أوليس السجناء هم من شيدوا قديما معظم الطرق والقناطر والسدود في معظم الدول.. قبل أن يهل علينا داء (حقوق الإنسان المزيفة)، ونحول السجون إلى مراقد ومعاهد لتكوين المنحرفين والمجرمين، ونقطة تعارف بينهم.