قصة قصيرة
السارق
لم تستطع التفوه بكلمة واحدة،لم تستطع حتي التحرك ولا مجرد الإلتفات،عندما شعرت بكتف ذلك الرجل الذي يجلس إلي جوارها في(الميكروباص) وهو يحاول الإحتكاك بها للمرة الثانية،بعد أن سكتت أيضا المرة الأولي،وهي تقنع نفسها أنه لم يكن ذلك عن قصد منه،كانت ضربات قلبها متسارعة،حتي شعرت أنها تصم أذنيها،وتشوش علي عقلها،الذي تحاول أن تسيطر عليه؛لتفكر سريعا فيما عليها أن تفعل،كيف تتصرف؟هل تتحدث إليه بأدب،وتطلب منه أن يبتعد قليلا،ولكن كيف هذا؟ومؤكد أنه شعر أنها تعرف أنها المرة الثانية،وليست الأولي، سيظن أنها تفتح معه حديث،وإن تحدثت بنبرة هادئة وهذا ماتعرفه جيدا عن نفسها،لأنها لم تعتاد الحديث سوي بلطف مع أي غريب،لا..لن تستطيع التحدث إليه،تشعر بخجل شديد،سيشعر من حديثها أنها ضعيفة،أو أنها توافقه علي فعله،ستحاول إذن أن تنهره وتعنفه بشدة ليتراجع ويتأدب،ولكن من الممكن أن يرد عليها بتبجح،ويتظاهر بأنه لم يقصد،ويعنفها علي سوء ظنها،ولن تكسب حينها سوي نظرات اللوم من كل من في العربة،يا الله..لاتستطيع التفكير،تشعر أن كل قطرة من دماءها تتدفق لعقلها لمساعدته علي التفكير سريعا،وعلي جبينها تنمو حبيبات عرق باردة تجعل كل عضلة في جسدها ترتعد خوفا وحيرة وتردد وتوتر،تريد أن تأخذ نفسا لتهدأ،ولكن لا تستطيع،تريد أن تبتلع ريقها،ولكنها تشعر بأنه حتي أمر بسيط كهذا لا يستطيع عقلها إرسال إشارة به وهو في هذه الحالة،ظلت متسمرة لاتحرك ساكنا،لم تجرؤ حتي علي الإلتفات إليه،كيف سيكون شكل هذا الكائن الأسطوري،الذي تسبب في كل تلك الضجة بداخلها،تخشي النظر في عينيه،فعقلها يصور لها أنه وحش إستطاع بلمسة واحدة أن يشل تفكيرها،ويقلب حالها،ويعكر صفو يومها،بل ويقتلع كل لحظات الآمان التي شعرت بها طوال حياتها في لحظة،هذا أول يوم لها لإستلام عملها الجديد،العمل الذي طالما حلمت به،كانت ذاهبة وكلها ثقة لأنها سوف تصبح إمرأة عاملة،إمرأة ناضجة،قادرة علي التعامل مع كل الصعاب،تستطيع التعامل مع كل نوعيات البشر،لم يسرق منها ذلك الوغد فقط لمسة عابرة ترضي شهوته اللعينة،بل إنه سرق براءتها،سرق منها كل شعور بثقة وآمان وقوة شعرت به طوال حياتها،شوه مستقبلها،وجعلها تنظر له بنظرة أخري مليئة بالخوف والشك-إستطاعت أخيرا أن تستجمع كل قواها،وكل ما إستطاعت فعله أن إبتعدت عنه قليلا لتلتصق بالسيدة التي تجلس جوارها،وما إن تحركت؛حتي تحرك هذا الوحش هو الآخر،وإلتصق بها مرة أخري،وهكذا لم يعد مجالا للشك في سوء نيته،لقد قرأ كل ضعفها وخوفها،شعرت أن آوان أن تأخذ موقف قد فات؛فسكوتها في المرة الأولي والمرة الثانية جعلها تعطيه الآمان ليكمل فعلته،لقد سلب منها آمانها ليأمن هو،وكل هذا في لحظات،الغريب أنها تشعر أنها تستقل هذه العربة منذ سنوات،رغم أن المسافة لاتتعدي بضع دقائق،تشعر أن دهرا قد مر عليها هنا،تشعر أنها قد كبرت،بل وهرمت في تلك الدقائق،تشعر أن ثقتها بنفسها قد إهتزت،ولن تعود أبدا كما كانت،وهنا..توقفت-العربة أخيرا،وسمعت صوت السائق،وهو يهتف(اللي نازل الميدان)سمعت صوته كأنه سجان يعطي الأمر للجلاد أن يكف عن جلدها،نزلت من العربة،وكل شئ بداخلها مختلف تماما عن وقت صعودها،تحاشت النظر خلفها،وهي تخفض رأسها في إنكسار،فوجدت من يسير بالقرب منها،ويهمس عند أذنها،وهو يكمل سيره قائلا بتهكم:(ياخسارة السكة خلصت بسرعة)لم تكن تتوقع يوما أن تكون لديها رغبة في قتل أحد مثل هذه اللحظة،إنها حقا مذنبة ذنب كبير،ولكن قد فات الأوان،لقد سرق السارق سرقته،والأدهي أنه إعترف بها في عينيها،وتشفي فيها ومضي ببساطة،ولن تأخذ حقها منه أبدا،ولن يعيد لها ماسرق،ليس أمامها الآن سوي أن تحاول أن تنسي ماحدث،ولو حتي بشكل مؤقت،لتستطيع أن تذهب لإستلام عملها،راحت تهون علي نفسها،بأنها علي كل حال لن تري ذلك اللص مرة ثانية،وإن رآها هو لن يتذكرها حتي،تعرف أنها تفكر بطريقة سلبية،ولكن ليس أمامها خيارا آخر،وصلت أخيرا إلي مقر الشركة،وأخرجت ورقها عند البوابة لتعطيه لرجل الأمن،ليسمح لها بالدخول،أخرجت الورق وتوجهت إليه،وقبل أن تنطق..نظرت له،فقط لتكتشف أنه هو بعينه،إنه ذاك السارق!!هو من سيحفظ أمنها هنا!! نظر في عينيها،وقد إرتسمت علي شفتيه إبتسامة لم تر أوقح منها،ثم قال لها بسخرية(أؤمري ياأستاذة)سكتت طويلا مرة ثانية،ثم أدخلت الورق في حقيبتها،وأخفضت رأسها وإستدرات..وذهبت دون كلمة.
_ تمت _