تكمن أهمية جواد سليم ( 1920 – 1961 ) في البنية المعرفية التي قدمها لنا أساساً، حيث تَمَثَلَ الثقافات والتاريخ وعلاقة المثقف بالمجتمع والمعرفة ، وجهده يغطي مساحة واسعة تختلط فيها الأحداث الفنية والآجتماعية والسياسية من خلال ربط التاريخ الخاص بالفن مع التاريخ العام للإنسان ، و أوجد الصلة الحقيقية بين العصر الحديث والحضارة العراقية القديمة .
كانت مهمة جواد معقدة جداً ، لأنها تهدف الى إنتاج ثقافة ومعرفة مستقلة في منطقة خاضعة لأوربا ، التي لاترى فيها غير منجمٍ للمواد الخام، أي أنه أراد تقديم ثقافة لم تقدم بعد أو أُسيء فهم تقديمها، ومن حسن حظه أنه يقف على أرضٍ تتكدس فيها الحضارات مثل طبقات الأرض، وتتصف بالحيوية والتدفق والتنوع والإستمرار.
أعتقد أن جواد في حاجة الى قراءة أخرى وإعادة نظر جديدة، لأن مجايليه لم يمتلكوا ما نملك من معارف متطورة حول الفن والمجتمع ومن مناهج أكثر تدقيقاً من مناهج الخمسينات .
لقد خلق لنا جواد منهجية جديدة تمتلك قانونيتها ولها القدرة على إنتاج فن ومعرفة تقابل ما للآخرين من معارف وفنون وثقافات منهجية لا تلغي الآخر ولايقدر الآخرعلى إلغائها ، منهجية دايلكتيكية ، إيجابية .
وقد أثبت للآخر عملياً تعدد وجهات النظر وآختلافها في فهم المشهد الفني في منطقتنا .
كان جبران خليل جبران أقرب الى الحالم من جواد الواعي , وكان المثال المصري محمود مختار ينتمي الى الماضي والمجتمع الزراعي أكثر من آنتمائه الى العصر الحديث، رغم أنه الرائد الأول في مسألة لفت نظرنا الى الهوية والتراث في الفن والثقافة عموماً ، والمعروف أن أوربا قد خلقت عنا تصوراً يعود الى الماضي وهو تصور ثابت غير قابل للتغيير ولا يحق لنا تحريكه أيضاً ، وهو تصور غريب مليء بالأعاجيب والخيال ، ولكنه تصور مشوه ويتصف بالعنصرية .
ولما كانت أوربا هي ولية أمرنا ، طوال النصف الأول من القرن العشرين، وهي التي تعرف ما هو مناسب وما هو غير مناسب بالنسبة لنا كما يدعي معظم مخططيها الآستراتيجيين، فمن غير الممكن أن يغامر أحدنا في إنتهاك هذا البناء العالي، الذي بنته أوربا لنجلس داخله كشعب ينتظر دوره التاريخي ليلعبه وفق الحدود المرسومة له من قبل ولي أمرنا الرحيم : الرجل الأبيض ، أو بناء على ” الآيديولوجيا البيضاء ” حسب وصف جاك داريدا للمركزية الأوربية ، لقد كتب يوهان فابيان في كتابه : ( الزمن الآخر – كيف تصنع الأنثروبولوجيا موضوعها ) والصادر في عام 1983 يقول ما معناه : من الضروري دراسة الأخر ومعرفة شروط حياته لغرض السيطرة عليه، أما برنار لوي فهو يرى صعوبة آمتلاكنا لثقافة ما، أو نملك حتى حماسة للبحث عنها ، ودانييل بابيس في كتابه : ( في سبيل الله ) الصادر عام 1983أيضاً ، يرى ” من الواجب توجيهنا الوجهة الصحيحة التي تراها أوربا نافعة لنا ، لأننا لا نحسن التعامل مع ما يجري حولنا “.
هنا يكمن دور جواد سليم وأمثاله ، الذين كسروا القاعدة السائدة وغيروا النظرة الدونية نحونا وقضوا على آحتكار المعرفة والثقافة والفنون . فأصبح في الأمكان إنتاج ثقافة وفن تقابل ثقافة وفن الآخر وتقف في مستوى واحد منها ، دون تحيز أو مغالاة .
أن التحرر من المركز والقطب أو المرجعية الواحدة أياً كانت طبيعتها، يسمح لنا في خلق فرص عديدة للتجاوز والإبداع والتنوع الحيوي . ان جواد واحد من رواد هذا التحرر ومعه ومع أمثاله ظهرت المنهجية الجديدة التي تنظر الى الأمور بمنظار مختلف الزوايا والإتجاهات.
و جواد من المثقفين العضويين في مجتمعنا و مساهم فعال في صياغة توجهاته الروحية والجمالية ، إضافة الى كونه فناناً شعبياً من الطراز الأول ، حيث فجر مكنون هذا الشعب وقدمه بشكل عصري يتناسب مع ما كان سائداً في فترته من محاولات التجديد الحقيقية ،و يشترك مع فائق حسن ومحمود صبري ومديحة عمر ونازك الملائكة وبدر شاكر السّياب ومحمد مكية ورفعة الجادرجي وعلي الوردي وطه باقر وعبد الجبار عبد الله وجواد علي وعلي جواد الطاهر ومتى عقراوي وغانم عقراوي ونوري ثابت (حبزبوز ) وغازي الرسام وصادق الأزدي وحقي الشبلي وعزيز علي وجميل بشير وسلمان شكر وغانم حداد وعبد الله كوران وغائب طعمة فرمان وعبد الملك نوري والجواهري و فؤاد التكرلي ويوسف العاني وهاشم الخطاط ويحيى فائق ومحمد القبانجي وحضيري أبو عزيز وداخل حسن ورضا علي وعباس جميل وعفيفة إسكندرولميعة توفيق وزهور حسين وسليمة مراد وإبراهيم جلال وجعفر السعدي وزينب وناهدة الرماح وجمهرة لاتعد ولاتحصى من المبدعين ، في إرساء قواعد الحداثة في الثقافة العراقية المعاصرة .
لقد رفض جواد الثقافة الملفقة ودعا الى ثقافة أصيلة لاتنقطع عن الجذور ولا تغلق بابها عن الجديد في الفكر الإنساني المتنور . ثقافة “أصلها ثابت وفرعها في السماء” ، لقد جعلنا جواد ورواد الحداثة في بلادنا ، قادرين على إنتاج ثقافتنا الوطنية ، بعد أن كنا نستهلك ثقافة الغير ونعتاش عليها .
يمتد خيط الخلق والإبداء لدى جواد، منذ عمله في المتحف العراقي القديم بتكليف من المربي ساطع الحصري ، ففي تلك الأوقات الباهرة أدرك جواد عمق المهمة التي تنتظره في هذا المعبد الإبداعي لفناني بلاد ما بين النهرين الأوائل ، هناك أخذ جواد يزيح التراب عن جبين كوديا حاكم لكش وعن كتف دودو الكاتب ، وراح يتأمل تماثيل العراق القديم وكأنه يغور في عمق تلك العيون،ملاحظاً بحساسيته المرهفة ، النسب الجمالية والتشريح المتميز وكذلك المقاييس المخالفة لمقاييس الجمال الغربي .
كانت خطوته الأولى في هذا الإتجاه : منحوتة : البناء ، التي وصفها بشكل عفوي وحمّلها أربعة إتجاهات : فرعونية -آشورية – غوطية وإسلامية ، في آن واحد .
كانت قطعة البنّاء ، أول عمل فني ناضج ، يملك مقومات الفن المحلي في العراق ، لقد استوحى القطعة من ملاحظاته للأسطه طه البناء أثناء عمله ، فحاول الإستفادة من الفن الآشوري والفرعوني والغوطي وحتى الإسلامي من خلال القوس البارز في القطعة، لكنه دون وعيه جسد الروح العراقية فيها، فهي نموذج حديث للنحت الإشوري الذي يتميز بالقوة والمتانة .
يأتي الواسطي ، كطفرة ثانية لجواد ، نحو التراث الوطني لبلاد ما بين النهرين ، فتلعب الصدفة هنا دور الدليل ، وتتكحل عينا جواد برسوم الفنان يحيى بن محمود بن يحيى بن كورويه الواسطي الذي زين وخط مقامات الحريري في النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي ، ويقف الحصري مرة أخرى وراء هذا التوجه ، حيث يطلب من الفنان الكبير عطا صبري ، بتكبير بعض رسوم الواسطي للمتحف .
يذكر الفنان إسماعيل الشيخلي ، أن جواد قد تلقى رسالة من فرنسا عليها طابع بريدي فرنسي للوحة الفنان يحيى الواسطي ، بمناسبة إقامة معرض الفن الإسلامي آنذاك. وهناك تفاسير مختلفة لما آل أليه أسلوب جواد سليم ، لكنها تتفق جميعها على جدية جواد في بحثه عن أسلوب يمثل فنون بلاد وادي الرافدين ، مع إصرار على ربط كل هذا بالعصر الحديث، ظهر هذا المنحى ، لفن جواد قبل أن يسافر الى بريطانيا لإكمال دراسته ، التي أنقطعت بسبب الحرب العالمية الثانية ، فذهب الى هناك وهو ممتليء بطاقة فنية محلية بعيدة الغور .
كان النحاتون رودان ، بورديل ومايول وريج بتلر والرسامون بيكاسو ، خوان ميرو، باول كلي وماتيس ، أهم الفنانين الأوربيين الذين تأثر بهم جواد سليم ، لكنه صاغ أعماله بطريقته الخاصة بعيداً عن التقليد المفضوح والتبعية .
من هذه المصادر الثلاثة: الفن العراقي القديم، الفن الإسلامي والفن الحديث ، شكل جواد منظومته الجمالية وقاموسه اللوني وخطوطه ، مضيفاً إليها حسه الشعبي الأصيل ، متمماً بذلك ما بناه الأوائل من فناني بلاد وادي الرافدين منذ آلاف السنين.
لقد جمع جواد فن التشكيل في شخصه بكل معنى الكلمة ، فكان نحاتاً ورساماً وخزافاً ومصمماً إضافة لآهتمامه بفنون أخرى، كالموسيقى والشعر والمسرح والسينما ، إذ كان جواد أقرب الى الموسوعي منه الى المختص بفن واحد ، وقد ساعدته إقامته في ثلاثة بلدان على توسيع دائرة آهتمامه .
يمكن آعتبار نصب الحرية لجواد خلاصة فنه ورسالته التي أراد أن يوصلها لنا نحن العراقيين وكذلك للعالم ، ويعد هذا النصب من أهم نصب العالم في القرن العشرين ، فهو بمصاف الجورنيكا وجداريات ريفيرا المكسيكي وغيرها من الأعمال العظيمة لفناني العالم بكل العصور .
فيصل لعيبي صاحي
لندن 23\ 01 \ 1992