تجربة (كيف أكتب نصّاً أدبيّاً)
خاطرة بقلم علي الشافعي
بعض الأصدقاء ــ أيها السادة الأفاضل ــ يرون أنّ أسلوبي في الكتابة متميز نوعا ما، من حيث النسج المحكم، وتسلسل الأفكار وزخم المترادفات، إضافةً إلى عنصر التشويق الذي يجذب القارئ ويجعله لا يمل الإطالة، وكذلك توصيل الفكرة بكل سهولة ويسر، وإطلاق العنان للخيال بأفكار أخرى غير مكتوبة، حيث يظهر النص وكأنه عروس تجلّت ليلة زفافها، فيسألون كيف تأتّى لك ذلك بهذه السهولة، وكيف يمكنهم أن يكتبوا نصاً بهذا الأسلوب، وخاصّةً المقدمات والنهايات. فأقول : لست بأفضل من غيري , فكثير من الكتاب لا أستطيع مجاراتهم , ولكن أجتهد على قدر ما أستطيع , ودونكم هذه التجربة لمن تروق له : صلوا على طبّ القلوب ودوائها :
نشأتُ ــ يا دام عزكم ــ وقد حُبّب إليّ فنُّ الاستماع ومن ثم القراءة، فقد كنت ولا زلت مولعاً بالاستماع، أحرِص على حضور المجالس والاستماع إلى كلّ ما يدور فيها مُمْعِنا وراصداً ومحلّلاً ومتدبرا . وكنت أقترب من الوالد رحمه الله أستمع إليه وهو يقرأ القرآن الكريم خاصّةً (القصص القرآني) بصوت ندي شجي , فيجذبني الأسلوب القصصي فأتمثله في ذهني . ثم أستمع إليه ــ خاصة في ليالي الشتاء الطويلة ــ وهو يسرد السيّر الشعبية والملاحم العربية القديمة ؛ كالزير سالم وتغريبة بني هلال وعنترة وألف ليلة وليلة والظاهر بيبرس وغيرها ، فكانت هذه القصص تشدّني كثيراً، فأستمع إليها مجسّداً أشخاصها وأحداثها وكأنّها تجري أمامي , حتى أصوات حوافر الخيل وقرع الطبول , وصليل السيوف وغبار الغارات وعودة المنتصرين .
أذكر إن لم نخنّي الذاكرة أنني كنت في المرحلة الابتدائية عندما حفظت قصيدة الملك كليب وائل لأخيه الزير ( لا تصالح) والتي كتبها بدمه على الصخرة التي قتل تحتها غدرا , وهي من عشرة أبيات وبلغة الجاهلية .
في المدرسة والجامعة كنت قارئا نَهِما؛ قرأت أغلب روايات الأديب الكبير نجيب محفوظ ويوسف السباعي وجبران خليل جبران , ومسرحيات توفيق الحكيم ، وكثيراً من الروايات العالمية المترجمة، وكانت تشدني صياغة بدايات الفصول ونهاياتها وعنصر التشويق فيها لدرجة تجعلني لا أترك الرواية حتى أنهيها. قرأت أيضا من أشعار الجاهليين والأموين والعباسيين وحفظت غرر قصائدهم بحكم تخصصي ، ثم قرأت لأدباء العصر الحديث وشعرائهم، قرأت لطه حسين والعقاد والمنفلوطي ، ودواوين شوقي وحافظ ونزار قباني , وشعراء المهجر وشعراء فلسطين إبّان النكبة. تأثرتُ كثيرا بأسلوب القران الكريم ؛ من حيث السرد القصصي، خاصّةً قصة سيدنا يوسف وأهل الكهف وسيدنا موسى مع فرعون ومريم وسليمان غيرها, فتكونت لديّ ثروة لغوية كنت أظنها كافية وقد تؤهلني لكتابة نص أدبي متكامل.
بدأت الكتابة من خلال التعبير، كنت أكره أن يحدد لنا المعلم الموضوع الذي سنكتب فيه, كنت أحب أن يترك لنا المجال ليعبر كل منا بما يحلو له , فكنت كلما كتبت نصاً أجسد من نفسي إنساناً عادياً بسيطاً ثم أقرأ النص أمامه وأنظر هل وصلته الفكرة كما أردتُها كاملة، فإذا لم تصل مزقته، وكم من نص مزقته قبل أن أصل إلى نص يستحق النشر .
أذكر أنني في الصف الثاني الثانوي أصدرت وزميلٌ لي أول صحيفة صفية أدبية , وعلقناها في الصف بانتظار رأي معلمينا فيها , أعجبوا بها واستأذنوا المدير فوافق على تعليقها في لوحة الإعلانات في ساحة المدرسة وكم كانت سعادتنا ! لكن يا فرحة ما تمت فقد أمرنا بإغلاقها لأن بعض الطلبة أخذوا يكتبون وينفسون عمّا يحتقن في نفوسهم ويعتمل في صدورهم عن الأوضاع في ظل الاحتلال , فتوقفت المجلة .
في الجامعة كانت الأوضاع أكثر تعقيدا وأشد تقييدا , وأثناء تقلبي في ديار الغربة أثرتني تجاربي الاجتماعية , إذ سمح لي هذا الأمر التعرف على إخواني العرب من محيط الوطن إلى خليجه، فعاشرت المغاربي والمصري والسوداني والخليجي وعرفت طموحاتهم وتطلعاتهم وحنينهم إلى أن يروا أمّة موحدة مترابطة وقد خرجت من عزلتها ، فالهمّ واحد , ووجع أهل الساحل الشرقي كوجع أهل الساحل الغربي ، فعندما أكتب يحسّ كلّ واحد منهم أنني أجسد معاناته وهمومه وأحلامه وتطلعاته .
ثم هذا الجهاز الذي وضع العالم كله بين يديّ، جعلني أحتفظ فيه بمكتبة صوتية تحوي آلاف الساعات من أشعار ومحاضرات وأغانٍ وأزجال , وسير وقصص تراثية من غالبية البلدان العربيّة من المجرودة الليبية إلى القصص الشعبية الصعيدية المغناة (السيرة الهلالية، حسن ونعيمة،) إلى شاعر المليون وأمير الشعراء. كلّ هذا المخزون إخوتي صاغ هذه النصوص التي تقرؤون، إضافة إلى التفرغ التام للكتابة بعد التقاعد ، فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
ولِكتابة نصٍ ما : أجعل الفكرة تختمر في ذهني يوما كاملا ثم أكتبها في يوم آخر أو يومين ، وبقية أيام الأسبوع ــ حيث أنشر أسبوعياًــ أراجع ما كتبت وأنقّحه قبل النشر , فأُغيّر وابدّل وأحاول وضع كلّ كلمة في مكانها الصحيح حسب مدلولها اللغوي والاجتماعي ، يعني مثلا : كلمة فرح لا تسد مكان كلمة سرور , رغم أنهما مترادفتان، لأن المدلول الاجتماعي لها اليوم (الحفل الجماعي) فنقول لحفلة العرس فرح، وكذلك الأعياد الدينية والوطنية، أما كلمة السرور فعلى نطاق الفرد أو الأسرة، ففلان مسرور: رزق مولودا جاءته ترقية أو نجح له ولد الخ. وكذلك للمرأة أكثر من سبعين اسما بتدرج عمرها وصفاتها الجسدية والخلقية , وكذلك السيف والحصان والسباع . هذه مَلَكَة أخواني الأفاضل تأتي بالخبرة ودقة الملاحظة , فاللغة بحر كما قال الشاعر الكبير حافظ إبراهيم :
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدقاتي
لذلك أرى لكل من يحب أن يكتب بهذا الاسلوب، أن يكثر من القراءة المُتمعّنة الفاحصة المحلّلة وخاصّةً للروائيين وكبار الأدباء، والتمعن في البدايات والنهايات والسرد وعناصر التشويق , ثم محاكاتها (الكتابة على غرارها) حتى يكوّن لنفسه أسلوباً مستقلّاً مميزا يجعلك مجرد قراءة النص تعرف أنه للكاتب الفلاني . فأنت بالتالي تكتب لكي يُقرا لك ويُفهَم عنك .
صدقوني ــ أيها السادة الأفاضل ــ أنني أقرأ اليوم الكثير من القصائد, فلا أعرف لها أولاً من آخر، وبلغة مكسّرة الأوزان ، فإما أن يكون فهمي قاصراً عن استيعاب شعر هذا الزمن العجيب ، وإمّا أنّ الكاتب لم يسعفه قلمه في إيصال الفكرة التي يريد للقارئ , ومع ذلك أيها ــ الأخوة الكرام ــ لا أعتبر نفسي معصوما من الخطأ , وما زلت أعتبر نفسي هاويا ومبتدئا وأتقبل النقد من أي أخ أو أخت , ورحم الله من أهدي إليّ عيوبي .
وفي الختام أقول لأبنائنا الشباب لا تتعجلوا فتتعثروا , وتقبلوا كل نقد بناء , وتعلموا منه , فإنما يضيع العلم بين الكِبَر والحياء . هذه تجربتي لمن أحب أن يسترشد بها . طابت أوقاتكم . بقلمي علي محمود الشافعي