حديث الجمعة بقلم علي الشافعي
حركتُ الوتد مقالة
قال الراوي يا سادة يا كرام ـــ بعد ان تصلوا على خير الانام ـــ : مرض ابليس يوما , فاحب ان يطمئن على عقبه من بعده , وان تسود شريعته في الارض الي يوم القيامة , فنادي اشد ابنائه مكرا ودهاء وفتنة فقال له : يا بني انت تراني وقد دنت المنية , اريد ان اختبرك قبل موتي لأطمئن على عقبي من بعدي , اسمع يا بني : القرية الفلانية لم استطع ان افتن اهلها بكل ما اوتيت من قوة , وكل الوسائل التي في جعبتي , من مكر وحيل ودهاء بني جلدتي , اريد ان تذهب اليها لأرى ما انت فاعل , فقد اعيتني الحيلة . قال الغلام : يا ابت صحيح انني حدث ولكني تربية ابالسة , انا ابليس ابن ابليس وستري مني ما يسرك .
انطلق الغلام مع الصباح الباكر , دخل القرية فراي امرأة تحلب بقرة , والبقرة مربوطة الى وتد , حرك الغلام الوتد فجفلت البقرة وهاجت , وافلتت من عقالها فداست المرأةَ واراقت الحليب , قامت المرأة ومن شدة الغيظ دفعت البقرة فسقطت ومانت , هب الرجل من النوم فرأى البقرة تتخبط في الرمق الاخير , فمن شدة غيظه ضرب المرأة فقتلها , فقام اهل القتيلة اليه فقتلوه , فقام ال المقتول يطالبون بثأره , فاشتبكت القرية ببعضها واختلط الحابل بالنابل , افاق ابليس فنظر فوجد القرية كلها مقلوبة راسا على عقب بين قتيل وجريح في هرج ومرج وصخب , فصاح بابنه ويحك ماذا فعلت بهم , قال الغلام : لم افعل شيئا يا ابت , انا فقط حركت الوتد .
للأمانة العلمية فتراث بني عرب منذ الجاهلية وحتى يومنا هذا يزخر بقصص من مثل تحريك الوتد , فحرب البسوس العتيدة بين ابناء العمومة ( بكر وتغلب), والتي استمرت اربعين سنة طالت نارها كل بيت من بيوت العرب , كانت بسبب ابيات رددتها البسوس على مسامع من مجيرها جساس بن مرة :
لعمري لو أصبحت في دار منقذ *** لما ضيم ســـــــعد وهو جار لأبياتي
ولكنني أصبــحت في دار غربة *** متي يعدُ فيها الذئب يعدو علي شاتي
فيا سعد لا تغرر بنفسـك وارتحل *** فانــــــــك في قوم عن الجار أموات
فأخذت الحمية جساسا البكري فقتل ابن عمه كليبا بن وائل التغلبي ملك قبائل بكر وتغلب ثارا لناقة البسوس التي قتلها كليب , فدارت رحى تلك الحرب المشؤومة , وعندما سألها مرافقها سعد : ويحك ماذا فعلت؟ قالت : لم افعل شيئا , فقط قلت ابياتا من الشعر .
في صدر الاسلام حذر الله سبحانه من الفتنة واعتبرها اشد من القتل , قال جل في علاه ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾, و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} , وحذر النبي عليه الصلاة والسلام كذلك اصحابه من القيل والقال (إن الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال) , وقد عانى المسلمون اول نشوء الدولة من فتن المنافقين وعلى راسهم عبد الله ابن ابي بن سلول الذي انسلخ بثلث الجيش يوم احد في قول قاله : (لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ) , ثم حادثة الافك المشهورة التي اشعلت نيران فتنة كادت تعصف بالمجتمع الاسلامي , بسبب قول قاله ذلك المنافق في ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها , وكذلك النافقون الذين كانوا يثيرون الاحقاد ويذكرون الاوس والخزرج بأيامهم في الجاهلية .
فتنة عبد الله بن سبا , الذي كان سببا في اقتتال المسلمين ردحا من الزمن , وتأخير الفتوحات الاسلامية , وعبد الله بن سبأ هذا شخصية ظهرت في فترة خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه , وتنسُبُ إليه الروايات التاريخية بأنه مشعل الاضطرابات والاحتجاجات ضده قي الخفاء ؛ واول من طالب بدمه في العلن بعد استشهاده , ثم اصبح من الغلاة بحب علي بن أبي طالب ومدعٍ لألوهيته، واحد مثيري الفتن في موقعتي الجمل وصفين اللتين راح ضحيتهما الالاف من كبار الصحابة .
الخلاف بين عبد الملك بن مر وان الخليفة الاموي الشهير واخيه عبد العزيز , كان بسبب كلمة همس بها الحجاج على مسمع من زوجة عبد الملك بخلع اخيه عن ولاية العهد ومبايعة ابنه الوليد , ولولا ان توفي عبد العزيز قبل اخيه لحصلت فتنة كبيرة لا يعلم الا الله ما نتائجها د, ولو سئل الحجاج لقال ما فعلت شيئا , انا فقط اسديت نصيحة .
الصراع بين الامين واخيه المأمون ابناء (الرشيد) في العصر العباسي والذي ادى الى وقوع الحرب بينهما قتل فيها الامين بسبب فتنة الفضل بن الربيع الذي استطاع إقناع الأمين بعزل أخيه المأمون من ولاية العهد ، وأن يجعلها في ابنه “موسى بن الأمين”.
فالفتنة اذن ـــ يا دام سعدكم ــ اشد من القتل , لان القاتل يقتل نفسا والفتنة تحصد الالاف , وتثير الضغائن والاحقاد , وتتسبب في قطيعة الارحام , الفتنة ــ ايها السادة ــ سبب خراب كثير من البيوت , وتبدُّل الانفس , كلمة يقولها شخص فلا يلقي لها بالا تخلق فتنة قد تودي الى القتل او ما هو اكبر , ويقول لك قائلها : انا لم اقل شيئا او لم اقصد ما جرى .
يدخل احدهم على شخص فيقول له : اخوك ايسر حال منك الا يساعدك ؟ الا يراف بحالك ؟ الا تراه يعيش هو واولاده بالبذخ والترف ولا يسأل عنك , يقولها ثم يذهب , يتلقفها الشيطان فيعمل عمله فيمتلئ قلب الرجل على اخيه , خاصة ان كانت له زوجة زنانة برمة بحياتها , فيفضي ذلك الى العداوة ثم القطيعة بين الاخوين وابنائهما .
تدخل امرأة على جارتها فتقول : كيف تصبرين على ضنك العيش مع زوجك , انت تستحقي عيشة الاميرات لا ينقصك شيء شباب وجمال , او قد رايت زوجك يحدث فلانة , تقول ذلك وتذهب فتثير فتنة في البيت قد تؤدي الى خرابه , وان سالتها ستقول لم اقل شيئا انا فقط ابديت رايي . كم من كلمة تقال لا يلقي اليها قائلها البال تكون سببا في خراب البيوت . كم من كلمة نحسبها صغيرة هي كبيرة عند الله جل شانه , كم من كلمة تقال لو مزجت بماء البحر لمزجته , صدق عليه السلام في قوله : (وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم – أو قال: على مناخرهم – إلا حصائدُ ألسنتهم ) .
اقول ايها السادة : الكلمة امانة , والامانة ثقيلة في ميزان رب السموات , الذي يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء , والله ــ ايها السادة ــ قد يتسامح في حقوقه ولكنه لا يتسامح ابدا في حقوق العباد , خبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء – التي بدون قرون- من الشاة القرناء). رواه مسلم. فاعتبروا يا اولي الالباب , فالكيس من دان نفسه وحبس لسانه عن الخوض في الفتنة . قال تعالى (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ) , وقال صلى الله عليه وسلم: “كفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّث بكل ما سمِع”. اعجبني قول الشافعي رحمه الله من قصيدة شهيرة:
لِسانُكَ لا تَذكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئٍ
فَكُلُّكَ عَوراتٌ وللنّاسِ ألسُنُ
وعَيناكَ إنْ أبدَتْ إليكَ مَعايِباً
فَدَعها وَقُلْ يا عَينُ للنّاسِ أعيُـنُ
طابت اوقاتكم