ذكريات من وحي النكسة
قصة بقلم علي الشافعي
مر ربيع ذلك العام كئيبا ملبدا بغيوم داكنة لا يعرف أي لونٍ أو نوع المطر الذي ستنجلي عنه، أيامه حبلى بالأحداث لا يعلم إلا الله متى يأتي المخاض، طبول الحرب تدق في كل مكان ولا أبالغ إذا قلت في كل بيت، ونذرها تقترب وسط لعلعة الإعلام العربي وتهديدات الدولة العبرية، والتحالفات العربية , والمؤامرات الغربية .هكذا كان المشهد عشية الرابع من حزيران عام ١٩٦٧.
طوحت بنا الأيام – بعد نكبة ١٩٤٨وتدمير الكثير من القرى وتشريد أهلها ، ومنها بلدتنا الأصلية قضاء حيفا السليبة – وأنزلتنا بلدة حدودية متاخمة للخط الأخضر أو ما أصبح يعرف بعد ذلك خط الرابع من حزيران عام ١٩٦٧ هذه البلدة أصبحت تابعة للضفة الغربية بموجب خط الهدنة، والتي أصبحت تتبع للمملكة الأردنية الهاشمية بموجب مؤتمر أريحا عام ١٩٤٩والوحدة بين ضفتي نهر الأردن. تبعد البلدة عن خط الهدنة والذي اجتزأ ثلثي أراضيها لصالح الدولة العبرية حوالي من ٣- ٥ كيلو مترات ،فوق تلة مفتوحة على جهة الغرب على الساحل الفلسطيني حتى البحر ، حيث كنا من على أسطح بيوتنا نرى أشرعة السفن في البحر المتوسط ، يعمل الوالد ككل أهل القرية في الزراعة لما بقى من أراضيها السهلية الخصبة ، وكذلك العناية بالحقول المحيطة بها من جهاتها الثلاث.
كنت فتى يافعا لم أتخط الأربعة عشر ربيعا ، نطوف بالبلدة مع أترابنا ونتأثر ونتفاعل بما نسمع من أحداث، ونتحدث بها في مجالسنا ،كل كما يتخيلها، وإن كنا نستعجلها بحماسنا واندفاعنا الصبياني ، فنحن لم ندرك بعد كيف تتم الحروب على بلادنا . كنا نتابع ما يدور خلف الأبواب المغلقة والأبواب المفتوحة من حديث، والبون شاسع بين الحديثين .
في حوالي الساعة العاشرة من صبيحة ذلك اليوم الخامس من حزيران من ذلك العام عاد الوالد من عمله مبكرا على غير العادة ، أنزل المسحاة من على كتفه , واتجه نحو المذياع بعينين تحملان من الخوف بمقدار ما تحملان من الأمل بعودة قريبة إلى الديار السليبة , اقتربت الوالدة منه سائلة بصوت خافت : (خير يا أبا علي ؟ عسى ما شر , أراك رجعت مبكرا على غير العادة ) . أجابها بصوت خافت أيضا: لقد قامت الحرب . قالت على الفور : يا ساتر يا رب , ثم انطلق صوت المذيع في إذاعة صوت العرب من القاهرة ، تسمر الجميع على رنات صوته وهو يذيع نشرة الأخبار : بيان رقم واحد صادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة: صرح مصدر عسكري بأن إسرائيل ارتكبت حماقة فبدأت عدوانها في الساعة التاسعة من صباح اليوم بغارات جوية على القاهرة وعلى جميع أنحاء الجمهورية العربية المتحدة ، وقد تصدت لها طائراتنا وأسلحتنا المضادة للطائرات أسفرت عن إسقاط 32 طائرة للعدو وما زالت طائراتنا تطارد البقية.
اشتد الحماس على ضوء هذه البيانات , أذكر أنني صعدت إلى سطح البيت المطل مباشرة على الحدود, صعدت وفي أعماقي ثورة فرح , كنت أتوقع أن أرى أرتالا من دباباتنا وجنودنا يشتبكون على طول الحدود وأن قواتنا تطارد دبابات العدو وتجتاز الأسلاك الشائكة على الحدود لتبدأ حرب التحرير …. لكنني لم أر شيئا ، كانت الجبهة هادئة تماما، لا يوجد ما يوحي بأن هناك حربا قائمة .عدنا نتحلق حول المذياع ، الإذاعات المصرية : الاناشيد الوطنية والحماسية يتخللها خطابات وبيانات ثم تعليق أحمد سعيد في ذلك اليوم , يبشر الامة العربية بالنصر ويتوعد اليهود بالبحر، نحن على بعد 30كم من تل أبيب . أدار الوالد المؤشر على اذاعة عمّان فوجدها ايضا أغان وطنية : (عالميدان يا ابن الأردن عالميدان) , أما الاذاعة السورية فقد كان إرسالها ضعيفا لا يصل إلينا ، كانت معنوياتنا ترتفع مع كل بيان يصدر عن الناطق العسكري في الدولتين، المعنويات في عنان السماء ، فقد اقتربت العودة.
مر اليوم الأول هادئا لا حركة على الحدود ولا حتى صوت بندقية صيد. مع ساعات الصباح لليوم التالي بدأت مدفعية هاون لقوات الاحتلال على تلة مقابلة للبلدة تطلق قذائفها على القرية وعلى القرى المجاورة , فنصح رجال الحرس الوطني الناس بمغادرة القرية إلى الحقول المجاورة حفاظا على أرواحهم حتى تنتهي المعركة خاصة بعد استشهاد عجوز اخترقت القذيفة منزلها الطيني , لم تكن الملاجئ متوفرة ، ولم نؤمر بإنشائها … لماذا ونحن قرى حدودية ؟؟
أمر الوالد فاحضرنا الحمار، وحمله بعض الفراش والمواد الغذائية والدقيق وانطلقنا مع أهل الحي إلى الحقول المجاورة , كنا نعرف مغارة كبيرة في حقل قريب . نُظفت على عجل وهيئت للنساء والأطفال , وانتشر الرجال تحت الأشجار في حلقات تعكس الروح التعاونية وسط الفرحة بقرب النصر وعودة الديار السليبة ، أما الشباب فبقوا في القرية للدفاع عنها كلٌ حسب إمكاناته . أمام المغارة شجرة خروب ضخمة تسلقتها مع بعض اليافعين أمثالي لمراقبة الحدود عن كثب ، لا جديد على الحدود سوي تلك القذائف التي أشرت اليها ، أذكر أنه في تلك الليلة سلّط كشاف ضخم من مكان إطلاق المدفعية على القرية والحقول المحيطة , فظن الناس أن اليهود قد اكتشفوا مكانهم تمهيدا لقصفهم , وفعلا في النهار القيت بعض القذائف على الحقول , فقرر الأهالي الانطلاق إلى مكان أكثر أمنا .
في اليوم الثالث وصلتنا أخبار عن بطولات سطرها المقاومون في جنين ويعبد والخليل والقدس الشريف فارتفعت المعنويات وأيقنا بقرب الفرج .
مع إطلالة اليوم الرابع للحرب بدأت إشاعات تتغلغل بين الناس نقلا عن إذاعة لندن بان الحرب قد حُسمت منذ اليوم الأول , وأنها في حكم المنتهية بعد أن دمر اليهود سلاح الجو المصري والسوري , وأن الضفة الغربية قد سقطت بيد الاحتلال إضافة إلى قطاع غزة وسيناء والجولان السوري، أي أن إسرائيل ابتلعت ثلاثة أضعاف حجمها , لم يصدق الناس في بداية الأمر خاصة وهم يستمعون للبيانات النارية من الإذاعات العربية , واتهموا إذاعة لندن بالعميلة والمثبطة لعزيمة التحرير لدى الجيوش العربية , فقاموا بمقاطعتها . لكن الشائعات أخذت تزداد شيئا فشيئا . ثم بدأت تترسخ كحقيقة قائمة , خاصة بعد أن سكتت الاذاعة الاردنية من رام الله وحل محلها مذيع يقول : هنا صوت إسرائيل من أوشليم ورام الله . فعرفنا أن الضفة سقطت بأيديهم , وان الإذاعة الأردنية في رام الله استولى عليها جيش الاحتلال . وتأكد الأمر عندما ألقى الرئيس جمال عبد الناصر خطاب التنحي عن الحكم يوم (التاسع من حزيران يونية) , وأنه يتحمل مسؤولية الهزيمة . فقرر الناس العودة إلى منازلهم , وفي عيونهم إصرار عجيب على التشبث بالأرض مهما كلفهم الثمن ، يومها سمعت الوالد يقسم أنها ستعود قريبا إلى أهلها.
عدنا الى القرية بانتظار ما ستؤول اليه الأحداث, بعد يومين أو ثلاثة دخل القرية خمسة جيبات عسكرية عليها وحروف لم نعتد على رؤيتها , إنها باللغة العبرية , اعتدنا عليها فيما بعد , لتعلن في مكبرات الصوت وبلهجة تعودنا عليها فيما بعد : يا أهل البلد ممنوع التجول , وعلى الرجال من سن 15أن يتجمعوا في ساحة المدرسة . كنت أقل من خمسة عشر لذلك لم أحضر التجمع , علمنا من الوالد أنهم أمهلوا الناس ثلاثة أيام لتجميع كل سلاح يمكن أن يقاوم حتى الخناجر والسيوف , تحت التهديد والوعيد والتبجح بهزيمة الجيوش العربية , وعليكم الّا تقاوموا فقد أصبحتم من مواطني دولة إسرائيل . بعدها فتحت الحدود بيننا وبين أراضي ال ٤٨, حيث بدا تبادل الزيارات بين أهل الضفة وذويهم من فلسطينيي الداخل المحتل , وبدأت المنتجات الإسرائيلية تغزو الأسواق .
إلى أن جاء يوم لن يمحى من ذاكرتي حتى أوسّد الثرى , يوم الأول من تشرين الثاني بداية الدراسة في المدارس في ذلك العام !! اصطف المعلمون أمام الطلبة وكأن على رؤوسهم الطير وعيونهم مغرورقه بالدموع ! إذ لم يرفع العلم ولم يعزف السلام الملكي , ولم ينشد الطلبة نشيد موطني , ولم يقف المدير ليحيي طلبته , ويهنئهم بالعام الجديد , وتسلل الطلبة إلى صفوفهم بكل هدوء وتثاقل , يومها فقط عرفنا أننا أصبحنا تحت الاحتلال . طابت أوقاتكم
علي محمود الشافعي