الرئيسية » آخر الأخبار » رسالة ..رواية بقلم مصباح فوزي رشيد

رسالة ..رواية بقلم مصباح فوزي رشيد

رسالة من داخل السّجن
…………………………………
الجزء الثّاني
(2)
خرجتُ من البيت صبيحة يوم أحد، ولم يكن تحتي سوى ورقة نقديّة من فئة الـ مئة دينار. وضعتُها تحت رأس الحريم، ولم أكترث لحال الأولاد وهم نيّام، ولا لحال والدتي المسكينة، القابعة بمفردها تتوارى عن الأنظار.
لم تكن لديّ أدنى فكرة عن طبيعة التّهمة، ولا عن درجة خطورتها. فصديقي القاضي، والذي زرتُه في بيته بالمدينة السّاحليّة لأحصل منه على أجوبة تطمئنني واريته بعد ذلك الاستدعاء الذي أرسله إليّ عن طريق الدّرك…، تظاهر لي بالمرض ليتملّص منّي. وجاء من بعد غياب مريب ليمضي على أوراق الحبس الاحتياطي، ثم فرّ. والنّاس في هذه الأيّام لا يفرّقون بين من سرق بيضة ومن قتل والده متعمّدا.( إن عشقت اعشق قمر وان سرقت اسرق جمل ) كما جاء في المثل.
جلستُ قريبا من باب العنبر المكتظ بالأسرّة والبشر. وانتظرتُ ولعلّ سيأتي صديقي القاضي نفسه أو من ينوب عنه ليقول لي: ” متأسّفين جدّا على ما حصل لك”.
أو يرسل مدير السّجن ليخبرني بأنّه حدث خطأ ما ويطيّب خاطري ويصرخ في وجه المساجين والحرّاس سواسية ويسبّ دين الآباء والأمّهات… ولكن كل ذلك لم يحدث.
وتمرّ الدّقائق، والثّواني، والأعشار… و كأنّها دهر. يعسعس اللّيل، ويجزع القلب، وتهيج الأفكار؛ [ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ].
ولم يتبقّ للعبد الضّعيف سوى العمل بوصية الأم لابنتها: ” كوني له أرضا يكن لكِ سماء”. وأقوال المشايخ والشيوخ الكبار: “وتواضع للنّاس يرفعوك”. و” انزل النّاس منازلهم” و” احلب في أوانيهم”… وغيرها من النّصائح التي حان أوانها.
تصنّعتُ الابتسامة على وجهي، تعبيرا عن فرحتي و سعادتي بوجودي بين “إخوتي” السّجناء، فالدّنيا في النهاية سجن وشقاء. واللّيلة ليلة “عرسي”، وأنا بالزيّ الرّسميّ وهذه الشيّاكة؛ كوستيم (فلانال) ورابطة عنق من نوع ( بيير كاردان) وحذاء من جلد الغزال..؛ وصدّقوني إن قلتُ لكم إن المساجين حين يُقرع عليهم باب الصّالة ويُرمى لهم بسجين جديد؛”هبرة لحم لتمساح جائع”، يفرحون أيّما فرحة، وتعلو البهجة وجوههم، ويسيل لعابهم، و تجري الدّماء في عروقهم، وتتحرّك الشّهوة فيهم. ويحصل العكس حين يزمع الإفراج عن أحد السّجناء، فإنّك تقرأ في وجوههم النّكسة الخيبة والنّكد. ومن عادة المساجين أنه إذا حلّ بدارهم محبوس جديد، عقدوا له جلسة كتلك التي تجري وقائعها في المحكمة، ومعها بعض الطّقوس الغريبة.
وبهذه المناسبة “السّعيدة”، مناسبة حلولي ضيفا عزيزا عليهم، تشكّل مجلس افتراضي من أدهى المساجين وأخطرهم.
طلبوا منّي الوقوف في استعداد، وقاموا باحضار قطعة قماش مسك كلّ واحد منهم زاوية من زواياها الأربع فصارت ظُلّة فوق رأسي. وجاؤوا بإناء به ماء ووضعوه فوق قطعة القماش، و انطلقت المحاكمة بكل حيثيّاتها؛ الرّئيس المزعوم يسأل وأنا أجيب. ووكيل النيّابة يتهدّد ويتوعّد، والمحامي يدافع ويلتمس الأعذار.
ورحتُ أتطلّع إلى أصحاب الوجوه المصّفرة، فلم أر فيها ما يجعلني أشكّ في أنّها مصيدة؛ أو مسرحيّة من طراز “الفودفيل” القديم جدّا، قمتُ فيها بدور المهرّج.
سذاجة ما بعدها سذاجة؛ جرّت عليّ أنواع المصائب و أوقعتني في الأفخاخ والمصائد.
قام أحدهم بسحب قطعة القماش من على رأسي، فانقلب الوعاء بما فيه من ماء. فسردتُ وابتلّت بدلة ” الفلانال” والكرافتّة المنمّقة وما تحتهما من ثوب رقيق ورهيف، وبدوتُ كعصفور مبلّل يرتعش من برد الشّتاء وماء المطر. ورُفعت الجلسة في الأخير، ومضى كل واحد إلى حال سبيله.
دع اللّوم إن اللّوم عون النوائب *** ولا تتجاوز فيه حدّ المعاتب
فما كلّ من حطّ الرحال بمخفق*** ولا كلّ من شدّ الرحال بكاسب
[ابن الرّوميّ].

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.