الرئيسية » آخر الأخبار » رسالة من داخل السّجن.. مصباح فوزي

رسالة من داخل السّجن.. مصباح فوزي

رسالة من داخل السّجن
…………………………………..
(3)
– نعم. كلمة سهلة وبسيطة، “خفيفة على اللّسان ثقيلة في الميزان”. لو قلتها، ولو على مضض، لطلعتُ كما يقولون كالشّعرة من العجينة.
كل أولئك الذين كانوا من حولي، من ذوي القربى والزّملاء والأحباب والأصدقاء… استغربوا في البداية ولم يأخذوا الكلام على محمل الجد، ولم ييأسوا قط.
– كلمة ثلاثية الحروف والأبعاد عميقة المعاني، كثلاثية فيلم “العرّاب” (The Godfather)‏ للمخرج السينمائي (فرانسيس كوبولا) الذي استغرق تصويره عقدين كاملين من ا لزّمن. لكنّه في الأخير حصد الألقاب وعاد على أصحابه بأرباح خيالية. واستغرقت قضيّتي حولا كاملا؛ بين الأخذ والرد. ثم انتقلوا إلى التهديد والوعيد، فابتزاز…، وآخرها الاستنطاق على يد رجال الدّرك المحترمين، لأنّني لم أجرؤ على قول شهادة الزّور.
– أقولها ثم أعود إلى البيت وأخلد إلى الرّاحة، وتعود الأمور إلى ما كانت عليه، وكأنّ شيئا لم يكن. أو”وكأن شيئا لم يكن” – على حد قول الشاعر[محمود درويش]. لكن النّفس الضّعيفة تأبى أن أزجّ بغيري في موضوع هو بريء منه براءة الذّئب من دم ابن يعقوب -عليه وعلى نبيّنا أفضل صلاة وأزكى سلام-؛ رئيس بلدية غلبان شاءت الأقدار أن تجمع بيني وبينه تحت مظلّة سقف واحد، كان يبحث عن المسئولية ويريدها بأيّ ثمن، (لإرضاء زوجته وحماته التي كانت تعيّره وتذمّه، وبعض المعارف والأصدقاء الذين يتقنون النّفخ وذر الرّماد في العيون؛ بأنّه رجل شهم وشجاع… وهو في الحقيقة معلّم بسيط و حاله كحالي. غير أن مصيبتي أعظم كوني اخترت الإدارة وكان أسوأ قرار أتّخدته في حياتي). لكن رئيسي ضعيف البنية، غلبان. والبلدية تحتاج إلى رجل شديد الشّكيمة، حتّى إذا استعصى عليه الأمر واجهه ببرودة دم وأعصاب فولاذيّة. فالمسؤولية تتطلّب بسْطة في العلم وأخرى في الجسم. [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ]-كما جاء في القرآن-.
كم نصحته ولم أكن بخيلا معه. وكلّما أسديتُ له بنصيحتي، وقلتُ له كما قال الرسول الأعظم: ( يَا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعِيفٌ وإنَّهَا أَمانةٌ، وإنَّها يَوْمَ القيامَة خِزْيٌ ونَدَامةٌ) محاولا اقناعه، تحجّج لي بموقف الغير…وردّ عليّ بنفس المنطق:”وماذا سيقولون عنّي؟” . إلى أن وقع في مصيدة غريمي المستهتر صاحب الثلاّجة؛ الثلاّجة اللّعينة التي كانت سببا في معرفتي به وبمرور الأيّام تطوّرت العلاقة لتصبح فيما بعد صداقة ثم تواطؤ قبل أن يتّهمني زورا وبهتانا أنا الآخر. وأقول له كما ورد في الحديث: – ربّ كلمة لم تلقِ لها بالاً, تهوي بك سبعين خريفاً في جهنّم. فأبشر يا هذا إن كنت تسمعني.
-كلمة واحدة أقولها تقضي على رفيق دربي، الرّئيس الغلبان الذي رمى بنصيحتي في القمامة ووضع نصب عينيه نصائح بطانة السّوء، وتنتهي المسألة، ويذهب به إلى السّجن، ويعود العبد الضّعيف إلى النّعومة من جديد؛ حياة الكذب والنّفاق والكواليس. لكنّني فضّلتُ السّجن، وفي غياهب السّجن أمور كثيرة أجهلها قد تكون مفيدة للسذّج أمثالي. وكان القاضي الذي استجوبني من المعارف؛ شربنا ذات ليلة مجنونة حتّى الثُّمالة، وركب هواه وفقد السّيطرة على مشاعره وراح يحدّثني عن فتاة أعرفها. كان يومها قاضي أحوال مدنية ببلدة مجاورة، قبل أن يترقّى إلى قاضي تحقيق ويتم تكليفه بقضيّتي. “أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما”.
بمجرّد عزوفي عن اللّهو وأسبابه وعن شرب الخمر وأهله، أضحت علاقتي بصديقي القاضي من الماضي. ويبدو أن صاحبنا من طينة صلبة، فلم يغتر بمنصبه الجديد، وبقي يحافظ على العلاقة الطيّبة بينه وبين الوجوه القديمة ومنهم العبد الضّعيف، وهذه ميزة تحسب له. وفي المقابل، كان متحفّظا، وأمضى يومه يستجوبني كأيّ واحد من السفلة المجرمين، ثم في آخر النّهار فرّ من مكتبه وتركني أواجه مصيري بنفسي. وبينما خرج الجميع من المحكمة، وبقيتُ وحدي أتابع خطوات العاملة تنظّف المكان هنا وتختلس النّظر من هناك، وتحدث أصواتا تردّدها جدران المكاتب الشّاغرة… وفجأة جلس بجانبي شخص ليس بالغريب؛
-إنّه المحامي(ز)! جاء يشدّ أزري. وسلّمني بطاقة عمل تحمل عنوانه ورقم هاتفه ثم انصرف. فأدركتُ أن الأمر لن يطول، وسيأتي أصحاب الأصفاد بالبدلات الرّسمية ليزيدوا على سعادتي فرحة أخرى.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.