سُحُبٌ خضراء
الرأي العربي .. الشاعر موسى صالح الكسواني
مَوْتٌ يَشْرَبُنِي مِنِّي
يُفْرِحُنِي أنِّي الآنَ هُنَاكَ
تُحَمِّمُنِي الأزْهَارُ البَرِّيَّةُ بِالْعِطْرِ الْهَارِبِ
مَعَ نِسْمَةِ صُبْحٍ دَافِئَةٍ
فِي زَاوِيَةٍ مِنْ عَفَشِ الْحُوشْ
تَعْبَقُ فِيهَا جُدْرانُ لِفَاعِي الأَبْيَضِ فِي الدُّنْيَا السَّوْدَاءْ
لَسْتُ حَزِيناً
لا أُمَّاً تَبْكِي أثَرِي الْمُتَبَقِّي
فِي الرُّكْنِ الْمُتَعّثِّرِ فِي الْبَيْتِ وَلا
صَاحِبَةً تَحْمِلُ
مَا اسْتَبْقَتْهُ الذَّاكِرَةُ الْمَخْطُوفَةُ مِنْ عُمْرِي
الْمَوْتُ حَزِينٌ
لكِنِّي أمْلَؤُهُ
بِالفَرَحِ المُتَخَفِّي فِي التّابُوتِ الرّيْحَانِيّْ
تَحْمِلُنِي الرِّيحُ
إلَى آخِرِ رِحْلَةِ عِشْقٍ مِنْ طِينِي البَشَرِيّْ
يَبْتَسِمُ الْمَكْرُ الْمَاثِلُ فِي عَبَثِي
وَ أنَا أسْمَعُ نَرْفَزَةَ الدُّودِ عَلَى جَسَدِي النَّاحِلِ
إذْ لا شَيْءَ سِوَى عَظْمٍ قَاحِلْ
فَأنَا أسْرَفْتُ كَثيراً فِي عِشْقِ الْجُوعِ
وَعِشْقِ شِعَابِ الْحُلُمِ المَاحِلْ
أصْحُو مِنْ لَحْدِي
وَ أعُودُ إلَى مَنْآيَ الآخَرِ يَا نَخْلةَ هَذا الْفَيْضْ
يَغْزِلُنِي وَمْضُ مَرَايَاكِ الْباذِخُ
وَجْهاً دُرِّيَّاً فَأرَانِي
وَ أرَاكِ أمَامِي
تَخْتَالينَ عَلى مَوْجِ صَهِيلٍ وَجُمُوحْ
نَجْوَايَ تُطِلِّينَ عَلَى عَجَلٍ فِي فُسْحَةِ إلْهَامِي كَيْ
أكْتُبَكِ الآنَ أيَا نَبْضَ مُنَايَ الْمُتَشَظِّي
فِي سَهْلِ الْغَابِ بِنُورٍ فَوْقَ صَحَائِفَ مِنْ نُورْ
مَنْ ذَا يُمْهِلُنِي سَاعَةَ عِشْقٍ نَبَويٍّ
لأحِيطَ بِلَيْلٍ يَتَخَثَّرُ فِي مَصْلِ الْوَقْتِ الرَّاعِفِ
مِنْ ضَوْءٍ يَتَوَضَّأُ دَاخِلَ شِرْيَانِ
الطِّفْلِ الْمُتَضَمِّخِ بِالنَّارِ عَلَى مِصْطَبَةٍ
تَنِسِجُ مِنْ دَمِهِ الْمُخْضَوْضِرِ
إكْليلاً يَعْسِلُ فَيْضاً قُدُسِيَّاً
فَتُضَاءُ بِهِ أعْذَاقُ النَّخْلِ المُتَهَلْهِلِ فِي عُنُقِ الْجَرْدَاءْ ؟
أكْتُبُكِ الآنَ أيَا مِلْيُونَ امْرَأةٍ فِي آنْ
مَنْ ذَا يُحْصِي عَدَدَ الجَمْرِ الْمُتَسَاقِطِ مِنْ جَسَدِي
حَينَ تَمُرِّينَ عَلى نَعْنَاعِ الخَاطِرِ
في وَطَنِي الْمُخْضَرِّ بنا
فَوْقَ تِلالِ الرَيْحَانِ
وفَوْقَ بَسَاتِينِ السُّحُبِ الْخَضْرَاءْ ؟
أكْتُبُكِ الآنَ أيَا فَرَحِي الْمُتَدَثِّرَ رَحْبَةَ رُوحِي
فِي أوّلِ تِشرينَ عَلى صَفَحَاتِ الْوَجْدِ بِمَاءِ الْوَرْدْ
يَا نَخْلَةَ هَذَا الْفَيْضِ إلاَمَ يُظَلّلنِي الْغَيْبُ
وَ أبْقَى أكْتُبُ سِرِّي فِي لَوْحٍ سِرِّيٍّ
تَحْتَ هَوامِشَ فِي الْقَلْبْ ؟
أكْتُبُكِ الآنَ أيَا امْرأةً تَعْشَقُ نِصْفَ اللَّيْلِ
وَ يَعْشَقُهَا النِّصْفُ الآخَرُ مِنْ تَنْهِيدِ اللَّيْلْ
وَ أَخُطُّ حُرُوفِي الأُولَى حَوْلَ الشَّفَتَيْنِ
لِتَرشِفَ قُبْلَتَهَا نِسْمَةُ عِطْرٍ شَارِدَةٌ
مِنْ شَفَةِ الْفُلِّ الْمُنْسَابَةِ فِي أُغْنُوجَةِ ضِحْكَتِهَا
فِي أبْهَى مَا التَذَّ بِنَشْوَتِهَا
قِنْدِيلُ الْفَجْرِ اللاَّهِثِ فَوْقَ بَشَاشَتِهَا
حِينَ تَرُشُّ الْبَهْجَةَ
فِي قَهْوَتِنَا الْفَيْرُوزِيَّةِ رَائِحَةُ الْهَيْلْ
صَمْتٌ يَصْفَعُنِي وَأنَا
أفْتَتِحُ الآنَ جَوَابَ الْمَعْشُوقَةِ
مِنْ آخِرِ مَا اخْتَارَتْهُ الأقْدَارْ
سُحُبٌ سَوْدَاءْ
وَطَنِي الْمَضْحُوكُ عَلَيْهِ بِلا أرْدِيَةٍ
يَرْجُفُ فِي فَزَعٍ جَائِرْ
طِفْلٌ يَجْتَاحُ جَوَارِحَهُ خَوْفٌ
فَوْقَ صَفِيحٍ مِنْ نَارْ
صَوْتٌ مَخْنُوقٌ فَوْقَ بَيَادِرِنَا
لِحَسَاسِينَ تُغَرِّدُ فِي مَرَحٍ مَقْمُوصْ
لا وَقْتَ يُغَرِّدُ لِلْحُبِّ مَع الْحَرْبْ
وَطَنٌ يَهْذِي بِلِسَانٍ تُعْجِزُهُ لُغَةٌ
أعْمَاهَا اللَّهْوُ الدَّمَوِيُّ عَلَى مَلأٍ
فِي سَاحَةِ نَزَقٍ نِفْطِيٍّ يَلْزَمُهُ زَمَنٌ
كَيْ يَقْرَأَ مَا غُيِّبَ مِنْ عُرْيٍ
فَوْقَ أرَاجِيفِ الصَّحْرَاءْ
وَبَعِيرٌ مُغْبَرٌّ يَجْتَرُّ بَقَايَا
نُتَفِ الوَطَنِ المَضْحُوكِ عَلَيْهِ وَيَلْهُو
بِرُغَاءٍ صَلِفٍ مِثْلَ ثُغَاءِ البُلَهَاءْ
اثْنَانِ عَلى بَيْدَرِ فَوْضَانَا كُنَّا نَرْتَاشُ طُفُولَتَنَا
وَسَذَاجَةُ قَلْبِي تَمْرَحُ فِي لَثْغِ سَذَاجَتِهَا
اثْنَانِ بِلا مَأوىً كُنَّا
لا عُشَّ يُلَمْلِمُ خَلْوَتَنَا
وَأنَا مَا زِلْتُ عَلَى رَقْصَةِ ضِحْكَتِهَا
أرْسُمُ فِي دَفْتَرِ أحْلامِي
رَعَشَاتِ حَمَاقَاتِي الأولَى
أدْرِكُ لَحْظَتَهَا
أنِّي أحْتَاجُ الْقُبْلَةَ أكْثَرَ كَيْ أسْكَرَ أكْثَرْ
أحْتَاجُ إلَى أكَثَرِ مِنْ عِشْقٍ
كَيْ أزْهِرَ فِي لُغَةِ الْمَوْتْ
تَحْتاجُ الزَّهْرَةُ أكثرَ مِنْ غَيْثٍ
كَيْ تَزْهُو فِي الْحَقْلِ الْمَحْرُوقْ
يَحْتَاجُ الطِّفلُ الْمَسْحُولُ إلَى أكثرِ مِنْ دَمِهِ
كَيْ يَأْمَنَ مَلْعَبَهُ الْمَسْرُوقْ
تَحْتَاجُ الطِّفْلَةُ أكْثَرَ مِنْ صِدْقٍ
كَيْ تَحْضُنَ لُعْبَتَهَا الْمَدْفُونَةَ فِي الْبَيْتِ الْمَفْقُودْ
تَحْتَاجُ الأنْثَى أَكْثَرَ مِنْ ضَوْءٍ
كَيْ تَدْهَشَ حِينَ تَعَضُّ عَلَى فَاكِهَةِ اللَّيْلِ بِلا شَبَحٍ
يَرْصُدُ دِفْءَ لَذَاذَتِهَا الْمَوْؤودْ
يَشْتَاقُ الْحَسُّونُ إلَى شَقْشَقَةٍ تَغْمُرُ أنْثَاهُ بِرَعْشَتِهَا
فَوْقَ غُصُونِ تَجَلِّيهَا فِي الْبَلَدِ الْمَزْرُودْ
كيفَ نَراكَ أيَا وَطَنَ الغُربَاءْ ؟
كيفَ نَرَاكَ أيَا وطني المَضْحُوكَ عليهِ
وَما زِلنا نُغْمِضُ أعْيُنَنا
عَنْ تَرفٍ مُنْحَرفٍ يَتخضَّبُ مِنْ حِنّائكَ
يا شَجَراً مَرْمِيّاً فَوْقَ ثآليلِ الحَصْباءْ ؟
تَمْتَصُّ خَلايَايَ الشَّمْسُ البِكْرُ وَتَتْرُكُنِي
أخْتَصِرُ الآتِي مِنْ عُمْرِ الزَّهْرَةِ فِي غَفْلَةِ هَذَا اللَّيْلْ
أخْتَصِرُ الأسْمَاءَ الْمَكْرُوهَةَ
فِي شَاهِدَةٍ تَسْخَرُ مِنْ هَذا الْوَيْلْ
أخْتَصِرُ الشَّوْقَ إلَى صَفْحَةِ تَارِيخٍ لَمْ يُكْتَبْ
وَ إلَى مَرْثَاةٍ يَكْتُبُهَا مِضْمَارُ الْخَيْلْ
قَمَرٌ فِي الرِّيحِ تَخَطَّفَهُ الْوَجَعُ الأَسْوَدُ
يَزْجُرُهُ مِنْ جَنْبَيْهِ إلَى مَوْتٍ مَقْهُورْ
سُحُبٌ سَوْدَاءْ
رِيحٌ صَرْصَرْ
لكِنَّ الآتِي يُزْهِرُ فِي غُصْنٍ رَطِبٍ
يَسْبَحُ فَوْقَ السُّحُبِ الْخَضْرَاءِ
وَ يَسْتَنْشِقُ أنْفَاسَ الشُّهَدَاءْ
لَنْ تهزِمَنا الرِّيحْ
سَنُصَرِّفُ وَجْهَ الشَّمْسِ إلَى أنْ تُشْرقَ فِينَا
نَحْنُ الْعُشَّاقَ نُسَائِلُ كُلَّ الأجْداثِ المَنْسِيةِ
عنْ حقِّ الأرْضِ وَعَنْ كلِّ شَواهدِ هَذي
الحُفَرِ المَنْزُوحَةِ فِي كُلّ ضَحالاتِ الْكَوْنِ
وَعنْ كُلِّ شَتَاتِ العُمُرِ المُسْتَشْري فِينا
سَنُسَائلُ مَوْتَى الْعَالَمِ عَنَّا كَيْمَا نَتَنَبَّأ
مِنْ تأويلِ الْحُجُراتِ الْمَوبُوءَةِ
بِالسِّرِّ الدَّمَويِّ عَلى عَتَبَاتِ الأقْصَى
فِي جُثَّةِ طِفْلٍ مَنْسِيْ
وأي كلمات تفيك حقك
للجمال المنسكب هاهنا
كل حرف ينطق عن سحر
أخاذ فاق الوصف
دام نبض حرفك المترف