حديث الجمعة بقلم علي الشافعي
عينه مملحة مقالة
كنا في الصغر – يا ايهاالسادة الكرام – نسمع من امهاتنا وجداتنا عبارة فلان ( عينه مملحة وعلان عينه غير مملحة ) , لم نكن نفهم معناها جيدا , الا اننا كنا نحس ان الاولى للمدح والثانية للذم , ما قصة هذه العبارة ولمن تقال ؟ تعالوا بنا نتعرف عليها بعد ان تصلوا على خير الانام :
على حد علمي فجيلنا وجيل من سبقنا وبعض من لحقنا ؛ وُلدْنا على يدي الداية ( القابلة), والداية في العادة امرأة كبيرة في السن قوية البنية خبيرة بأوضاع النساء الحوامل , وتيْسير الولادة المتعسرة احيانا . ثم هي جاهزة للعمل في أي وقت , ليلا نهارا صيفا شتاءً , وهي كما عرفناها ؛ سمحة الوجه ليس على لسانها سوى (بسم الله تبارك الله , اللهم صلي على النبي ) . وهي الى ذلك امينة مؤتمنة , فهي تدخل بيوت القرية بيتا بيتا , وتطّلع على تفاصيلَ لا يكاد يعرفها افراد البيت الواحد .
لا تشترط الداية اجرة محددة , فكل ما يأتيها من ذوي المولود خير وبركة , كل حسب حالته المادية , فمنهم من يعطيها نقودا ومنهم من يعطيها من مؤونة البيت ؛ كالزيت او الزيتون او القمح . تحمل في يدها حقيبة صغيرة فيها كل عدتها : مقص وشاش وقطن وخيط كرار , وهي عادة ما تعتني بالطفل من ولادته وحتى نهاية الاسبوع الاول من عمره المديد , وقد يكون لها دور في تسميته حسب مقتضى الحال, فتسمس رمضان او شعبان او رجب او ربيعة او خميس الخ , تحضر كل يوم فتحممه وتدهن جسمه في الايام الثلاثة الاولى بالماء والملح , وتقول : هذا حتى يقوى جلده ويقاوم الامراض الجلدية والتقرحات , وفي الايام المتبقية تدهن جسمه بزيت الزيتون وتقول : هذا ليتغذى الجسم ويصبح نضرا , هكذا كانت تقول بصوت هادئ رقيق . لكنها كانت تصرّ على ان تمسح عينيه , وتقطرهما بالماء المملح او عصير الليمون طيلة الايام السبعة , وكنا نسمعها وهي تقول : هذا حتى ( تقوى عينه في الحق , ويصير عنده حياء) , تطبيقا للمثل الريفي السائد (فلان عينه مملحة) أي قوي في الحق ويستحي من فعل الباطل . وفلان عينه مش مملحة كناية عن الوقاحة وقلة الحياء والادب ـــ بعيد عنكم ــ .
والعيب الذي تقصده الداية عادة ما تعارف عليه الناس في مجتمع ما , فما هو عيب في مجتمع ما قد لا يكون عيبا في مجتمع اخر , مثلا : عندنا تعارف الناس ان لبس البنطال القصير او البيجاما او الفانيلا والخروج بها في الشارع هذا عيب , والشاب او الفتاة اذا رفعا صوتيهما امام الوالدين عيب , والطفل الذي يتحدث بوجود كبار السن او يضحك في جلسة جادة هذا عيب ايضا , وبناء عليه فالذي( عينه مش مملحة) : هو الذي يرتكب الاخطاء التي هي في عرف المجتمع معيبة , اما الان فكل ما تعارفنا عليه عيبا يفعله ابناؤنا , ولا نقول لهم هذا عيب ولا نفول عينك غير مملحة , بل وقد نبتهج ونفاخر بها .
اما – يا دام مجدكم – الانسان الذي يغش ويرتشي ويكذب ويختلس فهذا شيء اخر لا علاقة له بملح العين , هذا شيء كبير لا تقدر الداية معالجته . فهذا الانسان يعمل الباطل ويتفاخر به , وعنده استعداد ان يجلس يجادلك بانه على صواب , تماما كالمدخن مثلا الذي يحاول اقناعك ان التدخين لا يضر بالصحة , او كالإعلامي الذي يجلس ساعات يطبل ويزمر في وسائل الاعلام ليقنعك ان خطة الحكومة صائبة , وستدر على البلد السمن والعسل , ويطبل للمسؤول الملهم الذي لم تنجب مثله الولاّدات , وهو الرجل المناسب للمكان المناسب , ويوزع المناصب المناسبة والمفصلة على قد اصحابها المناسبين المفصلين , ويقنعك بان المتنبي عندما قال البيت التالي:
فتى ما سرينا من ظهور جدودنا الى عصره الا نرجّي التّلاقيا
انما يعنيه هو ولا احد سواه .
او كالنائب الذي قبّل ايادي الناس لينتخبوه , ثم بعد ذلك انقلب وتنكر لمبادئه وقبل ايادي الحكومة وسار في فلكها , او كالمعارض الذي ينتقد الحكومة ,محاولا التركيز على فشلها وانها علىّ وشك تخريب البلد وتدمير الاقتصاد , حتى اذا ما دخل الحكومة , واصبح في مكان المسؤولية تناسى شعاراته , وسار على نهج سابقيه ويبرر لهم موقفهم وقراراتهم الملهمة , او كالذين يفرقون بين موقفهم الرسمي الذي يمليه عليهم بروتكولهم المنصبي وموقفهم الشخصي , واذا احببتم البرهان فانظروا مواقف زعماء حاكمة العالم صاحبة العظمة ( امريكا) بعد انتهاء مدة حكمهم من قضية فلسطين , وقضايا العرب عامة , وكذلك الامناء العامون للأمم المتحدة راعية الظلم والفساد في هذا الزمان . والحديث ذو شجون, أرأيتم كيف بدانا , والى اين وصلنا , و يا خوفي من تاليها . طيب الله ثرى الداية , فما عاد لها وجود هذه الايام ,وما عاد لها لمثلها حاحة . طابت اوقاتكم