الرئيسية » آخر الأخبار » غصة حلق ..قصة قصيرة بقلم علي الشافعي

غصة حلق ..قصة قصيرة بقلم علي الشافعي

حديث الجمعة بقلم علي الشافعي
غصة حلق قصة قصيرة
منذ نعومة اظفاري ــ هذا اذا كانت لي اظفار , فنحن بني فلسطين وخاصة الفلاحين نسمع بالأظافر الناعمة ولا نعرفها ــ اهوي التنقل , اما مردوفا خلف والدي رحمه الله على الحمار القبرصي الكبير , او على عربة يجرها الحمار , هذا للمسافات القريبة , او الباص ( الحافلة او الاتوبيس) للمسافات البعيدة , واذا خيّرت بين الباص والتكسي كنت افضل الباص , فان سألتم عن السبب اقول لكم : الباص يمتاز بميزتين , لو عرفهما اصحاب السيارات السوداء لقاتلونا عليهما : الاولى انه بطيء الحركة نظرا لكبر حجمه وعدد الركاب الذي يتجاوز الخمسين قانونا والمائة عادة , الامر الذي يتيح للراكب متعة التنزه عبر الحقول الممتدة على طول الطرق , خاصة وانه عادة ما يمر بالعديد من القرى قبل الوصول الى المدينة , والثانية : انه يحمل العديد من الناس , الامر الذي يشكل لوحة فسيفسائية لأبناء الوطن , كل يغني على ليلاه , فهذا يتشكى وذاك يتشهى واخر يتذمر من الوضع , وتلك تتحدث عن فرح ابنها او ابنتها وصيغة العروس وكسوتها , وعادة ما تخصص المقاعد الخلفية للشباب , الذين تدور فيما بينهم النكات المختلفة , والسمجة والمكررة احيانا , لكنها تعبر عن الهم اليومي لهم في ظل الاحتلال , مما يتعرضون له اثناء تنقلهم على الحواجز , او عندما يحتاجون لتصاريح للدراسة في الخارج . اما ارضية الباص فعادة ما تمتلئ ببعض الطيور او خيرات الريف الفلسطيني , لتباع في المدينة .
كانت بلدتنا ( عتيل ) احدي المحطات التي يتوقف عندها الباص الوحيد , الذي كان لا بد ان يمر بكل قرى الشعراوية وصولا الى مدينة طولكرم صباحا , والعودة مساء بنفس خط السير , كانت الرحلة ومسافتها الفعلية حوالي 25كم تستغرق حوالي الساعتين , نظرا لضيق الطريق وتعرجها , وحواجز الاحتلال وكثرتها , والتحميل والتنزيل في كل قرية يمر بها , تلك القرى التي تفنن اهلها في اقامتها على رؤوس الجبال , للحفاظ على الرقعة الزراعية المتبقية من سهول ومروج وحقول , بعد ان استولى المحتل على ارض الساحل الفلسطيني الذي يعتبر من اخصب بلاد العالم . اما اليوم فمع الاسف نزل الناس الى السهول وتركوا قمم الجبال فاستولى عليها المستوطنون , فلا تكاد تري قمة جبل الا اقيمت عليه مستعمرة . شقت اليها طريق واسعة عبر اراضي المواطنين .
أتيحت لي الفرصة في ربيع عام 1972 لقضاء يوم بأكمله في رحلة اضطرارية ممتعة , أتنقل خلالها بثلاثة باصات , وامر بأشهر ثلاث مدن في الشمال الفلسطيني , طولكرم نابلس وجنين , استمتع بمناظر الطبيعة الخلابة في تلك الفترة من العام , حيث البساط الاخضر المنمنم والموشى بشتى الالوان ، من الاحمر الى الوردي فالأصفر والابيض والسماوي والبنفسجي , لكنني ختمتها بغصة بقيت في حلقي اربعة اشهر وان كانت مرارتها مازالت حتى يومنا هذا .
كان ذلك قبيل موعد امتحان الثانوية العامة بشهرين , استدعاني مدير المدرسة وقال : شهادة ميلادك بالية , عليك ــ يا محترم ــ تغييرها خلال اسبوع , قبل رفع الطلبات للجنة العامة للامتحانات , والا فقدت حقك في تقديم الامتحان لهذا العام . ثم نظر الى الشهادة وقال : هذه صادرة من مديرية صحة جنين , اذن عليك استبدالها من هناك . صراحة فرحت في داخلي , حتى كدت اقبل راس المدير , فهذا معناه ان اخذ يوما بعذر اغيب عن المدرسة , واستمتع بأجواء الربيع عبر الطريق الى مدينة جنين .
لم انم ليلتها وانا احلم بتلك الرحلة التي سأقوم بها بمفردي , من غير رقيب ولا حسيب . كان علي ان اتوقف بمدينتين قبل ان اصل الى جنين , من قريتنا الى مدينة طولكرم , ثم الى نابلس ومنها الى جنين , رحلة طويلة لكنها ممتعة , لها رونق خاص , تجعلك تستمتع بمعالم الطريق في اكثر ثلاث مدن خضرة في فلسطين , لا تمر خلالها على شبر من الارض الا وقد اكتسى اما بشجرة او نوع من انواع الخضار او البقول او النباتات البرية .
في الصباح لبست البدلة اليتيمة التي فصلتها في العام السابق للمناسبات , ونزلت الى الشارع بانتظار الباص , عادة يمر عند السابعة صباحا الذي وصل على موعده , ركبنا وانطلق متهاديا ينوء بحمله الثقيل بين الجبال مرورا بدير الغصون فالجاروشية وشويكة في طريق متلو ضيق اشبه بثعبان العربيد ( وهو نوع من الافاعي الطويلة السوداء يعيش في الساحل الفلسطيني) وسط أشجار الزيتون والتين واللوزيات بأنواعها , حيث وصلنا المدينة عند الثامنة والنصف .
في محطة باصات ( طولكرم ــ نابلس ) هناك طقوس لا بد من ادائها بانتظار انطلاق الباص , فهناك عربات تبيع المثلجات والحلويات والمأكولات الجاهزة , فلا بد للمسافر ان يتحف نفسه بإحداها , تناولت كوبا من شراب الليمون المثلج وصعدت الباص بانتظار ان يمتلئ بالركاب .
الطريق الى مدينة نابلس 30 كم يقطعها الباص في غضون ساعة , تقع في سهل ضيق تحيط به الجبال من الجانبين , فجعلت امتع نظري بأشجار اللوز والمشمش والدراق والكرز , التي بدت اوراقها الجديدة للتو باللون الاخضر الفاتح تتخللها الازهار البيضاء والوردية , اضافة الى البساط الاخضر من النباتات البرية بأزهارها المختلفة .
مدينة نابلس ايضا لها طقوسها , فهي مركز محافظات الشمال , ولابد لزائرها من تناول اما طبق من الكنافة النابلسية العريقة من عند العكر , او بعض مشاوي اللحمة او الكبدة على الماشي يأكلها في الباص بانتظار تحركه الى جنين , والفقير مثلي يتناول شطيرة فلافل او صحن حمص . بعد ذلك يتواصل البساط السندسي بين حقول القمح والفول والذرة والعدس والحمص عبر سهل يبدا ضيقا ثم يتسع شيئا فشيئا ليكون مرج بن عامر الشهير , الذي استولى المحتلون على اغلبه عام 1948 وفلتت جنين من قبضتهم . والمسافة بين المدينتين حوالي 43 كم تحتاج الباص ساعتين نظرا لكثرة حواجز التفتيش عليها .
كانت الساعة حوالي الثانية عشرة ظهرا عندما وصلت الى مدينة جنين , فأخذت اسابق الريح لكي اصل الدائرة قبل نهاية الدوام , وفعلا وصلت الهث , هدّأني كاتب النفوس (السجلات ) وناولني كوبا من الماء قال : يبدو ان مشوارك بعيد قلت : نعم من طولكرم قال : استرح بم اخدمك , كان رجلا على مشارف الخمسين حسن المظهر بشوش الوجه حلو الحديث . قلت : انا طالب في الثانوية العامة , اريد شهادة ميلاد بدل تالف , قال : اعطني تاريخ ميلادك فأعطيته , اخرج سجلا ما رأيت بحجمه الا بعد ان اصبحت معلما , واطلعت على سجلات علامات الطلبة . خلال بحثه في السجل القيت نظرة الوداع على الشهادة التالفة بتروستها المزخرفة (المملكة الاردنية الهاشمية تحتها وزارة الصحة ـــ شهادة ولادة ) بعد قليل قال نعم وجدته , ثم تناول ورقة سجل فيها البيانات وختمها , ناولني الرجل الشهادة الجديدة واخذ التالفة , ولكن ما ان القيت نظرة عليها حتى اصبت بغصة في حلقي احس بها الرجل قفال لي : اشرب , اكيد وقع نظرك على الترويسة الجديدة (قيادة قوات جيش الدفاع الاسرائيلي ــ وثيقة ولادة ) ثم قال : والله واتبدلت غزلانها بقرود , اشرب يا ولدي , هذه الوثيقة للداخل فقط , فان قدّر لك ان تدرس في الخارج فلا بد ان تبدلها من وزارة الصحة في عمان , فتعود وترى الترويسة التي افتقدت .
وخرجت ولكن الغصة لم تخرج الا بعد ان تقدمت بأوراقي الى الجامعة الاردنية ذهبت لوزارة الصحة واخرجت شهادة ميلاد جديدة اول ما تسلمتها القيت نظرة على الترويسة ( المملكة الاردنية الهاشمية ــ شهادة ولادة ) ساعتها قلت الحمد لله وقبلت الشهادة ووضعتها في الملف ثم اكملت استبدال باقي الوثائق . طبتم وطابت اوقاتكم .

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.