قراءة في قصيدة ” أرجوان ” للشاعر موسى صالح الكسواني .
بقلم : أسامة جبارة
سادراً يرقُب المغيب , باحثاً عن نجمة تتلألأ في سماء العشق , لعلها تُسرّي عن مسرى لياليها , فيطلق لعينيه كما لمخيلته أن تبتكرا المكان ليغوي قلبها ، و يصلي في محراب عينيها , و يركع حيناً و يتأمل أحياناً , فيقترب منها ، فتحرقه بقربها ويعود ليبتعد فيشتعل الشوق في قلبه ، و تصحو حروف قصيده , فتعطر صباحات الرجاء وتغسل بالندى براعم القلب و الورد معاً وتسقي برحيقها فَراش العشق و الروح . حين يقول :
” عيناكِ محرابان مِنْ زُمُرُّْدٍ / جبينكِ الدُّرَّيُّ مَعبدٌ للنور ” / .
يطلق الشاعر الكسواني الأنا الواعية الكليّة لطفله المتمرد في داخله , فيستعيد براءة الطفولة الأولى , و يسترجع الشاعر ذاكرته التي أضحت مكنون ذاته و شكّلت تكوّنَه الحياتي و النفسي , فتمر أحلامه عبر شريط من الذكريات , لتكشف خفايا دفينة عابقة بأحلام الطفولة بكل ما فيها من دمى و ألعاب و عرائس كان قد ضمها يوماً إلى صدره فأضحت جزءاً منه , و ما زالت صورها تخالج خياله .
وما بين الماضي و الحاضر زمانان و مكانان مختلفان و لكنهما مترابطان يشدهما خيط نفسي رفيع يبان حيناً و يختفي أحياناً , فيغوص الشاعر في طفولته بعفويتها و جمالها و بساطة زمانها , عندها يحار الشاعر بالحاضر و لحظته المتعبة , و أيامنا المتخمة بالصراعات بين مفاهيم تمثل مصفوفة من القيم ما زال الجدل محتدماً حولها , حتى أننا لنكاد نتأرجح بين الرفض و القبول ولذلك فقد أصبحنا نخلط بين الوهم و الخيال و بين الواقع و الأمل و الرجاء ! .
أكانت هي عروس البلور الدمية الجميلة لهذا الشاعر العاشق ؟
أم أنه الشوق و الحنين الذي يهطل على أحلامه فيعشعش في ثنايا روحه، فتجري محبتها في دمه من جديد ؟
أم أنها المرأة الغائبة الحاضرة القابعة في عقله الباطن التي ما زالت تؤرقه و تشاغله فيبحث عنها في دواخله كي يراها كما يودّ أن يراها ؟
أو أنها تشابهت عليه فذاب بعض منها في ثنايا البلور فتكسرت أجنحة القلب ؟
و ها هو الشاعر يفتح لها نوافذ الزمن و يُحمِّل عربته بعطر العشاق , لتجرها خيول جامحة , من أجل أن تنثر عطرها على الحاضر لعله يؤوب إلى رشده , ثم يهديها لعيون حبيبته شعراً .
حيث يقول :
” عرائس البلَّوْر كل ليلةٍ / يعصِرْنَ خمرَهُنَّ في عينيك / ثم يغتسِلنَ بالزهور سافراتٍ / فوق سندسِ الخدودْ ” .
من هذه الوردة التي يُزينها عودُها , و رقتُها و قسوتُها في آن , فتمنح نص الشاعر الكسواني مساحة اشتعال , فيتسارع نبضه و يقترب و يبتعد حتى ليأخذه جموح خياله ؟
أهي سيدة هذا المدى الممتدّ من أفق القلب إلى قلب الكون , فينسج لها من الأحلام مملكة , و من الجمال الحياتي رؤى , و من الشوق ثوباً يطرزه الأمل , و من النجوم مرايا ؟
عندها يتوهج الكون و تعزف الدنيا ألحانها فيرقص نشواناً حين تأخذه سُلافة الندى بسحرها , فتحاكيه عيناها غزلاً و تحاصره في محراب عشقها . و يخاطب الشاعر حبيبته قائلاً :
” حبيبتي / في هذه الآفاق لم تزلْ رحابة الَمدى / و لم تزلْ نشوانةً على أعطافها سُلافةُ النّدى / و في مدارها المديد ترسل الطيور حبَّها / و تطلق الجبالُ أرجوانَها / للعشق في تفاريح الشذا ” / .
و في انتقالة داهشة يُيَمّم بنا الشاعر الكسواني صوب الصحراء بفضائها المتخم بالدلالات و الرموز , حيث ترتبط الصحراء في ذاكرتنا العربية بأمرين اثنين أولهما أنها أرض الأسطورة ، و يحكمها منطقها و فلسفتها ، و عاداتها ، و تقاليدها الاجتماعية حيث تحتلّ التضحية و الإيثار أولوية , أما القربان المقدس فيرتبط بالعائلة و العادات , و ثانيهما حالتنا الوجدانية و إحساسنا بالصحراء كهوية ، و باللغة كوجود , بالإضافة إلى عمقها المكاني و ارتباطها بالأصالة و القيم النبيلة فتسمو بأرواحنا مُتجلية في فكرنا و منفتحة على الأفق بأبعاده مما يدفعنا إلى التحليق إلى ما وراء الأفق , و هنا يحاول الشاعر الكسواني ان ينقلنا إلى الصورة المطلقة للصحراء و قسوتها , و يدمجها مع الصورة الذهنية , و يجسّدها كمبدع في صور محسوسة حياتية آنية تُمثل واقعنا .
يستقيظ الشاعر الكسواني من حلمه فزعاً ، حيث يغمره الألم وتعصف به الحيرة فتتجمد الدمعة في عينيه , وهو يرى وردته تذبل بين يديه , و يتساءل وهو يُقبِّل حفنة من تراب وطنه .
أيُسرقُ و يُباع الوطن باسم السماء حتى تباع الأمة مرتين أولهما على قارعة الطريق الدولية , و ثانيهما حين تعرض للبيع في سوق النخاسة تلك التي لبست ثوب العروبة يوماً و آمنت بوطنها و صرخت مستجيرة بأمتها ؟
و لكن لا حياة لمن تنادي , فنعت بصرختها كرامة أمة , و طفقت تبحث عن وطن لتمارس التيه و الشتات من جديد.
و للوطن أنبياؤه و ذئابه , ولكل ذئب فصوله في مجتمع أبوابه مذهبة ببريق النفاق الاجتماعي الذي يختفي وراءه مجتمع مخملي , يعزف لحناً واحداً و سيمفونية تُمجّد المصالح، و تقتل الإبداع و المبدعين , وهذا يذكرنا بما كان يوماً , يوم حاربنا الأنبياء بالسيف فظهر الحق و زهق الباطل , وها نحن نقتل الصالحين بالباطل و كأنها نفس السهام تُطلق في وجه الحق زوراً و بهتاناً , فهذا يوسف النبي لم يقتله الذئب , حتى تبرأ الذئب منا , و يبدو لي أن لكل مرحلة ذئابها .
وهكذا يكشف لنا الكسواني عن مكنونه :
” لكنها الصحراءُ يا حبيبتي / تجيء متعبةْ / على ذيولها تجرُّ خيبة السرابْ / تظلُّ تشربُ المواتَ / مِنْ شتات كَوْنِنا الخؤون / الناس فيها يقتلون الأنبياءْ ” / .
أهو الغبار و البرد و الوحل و الغموض و التيه و يوم السغبة ؟
و يستشرف الشاعر حال الأمة فيراها وقد ضاعت صورتها في مرآة الأمم , حتى لكأن غبار الحروب قد مزق مرايانا , فغصنا بالوحل و ها نحن نسير بلا بوصلة , كما يهاجمنا البرد من كل اتجاه ليقطع ما تبقى من أوصال مفاصلنا , إنه الصقيع الذي ينبئ ببداية الرحلة نحو المجهول .
تتملكني الدهشة متسائلاً كيف لي أن أجمع كل هذه المفاهيم التي شكّل الشاعر بها لوحه الأمة واصفاً أوجاعها و راسماً بريشته التي غرزها في مداد واقعنا العربي , فبرزت بتشكيلها هياكل عظمية و أسواراً ، و حصار ذئاب بشرية , و أطفالاً تآكلت عظامهم و لم يتبقَ منهم إلا عيون غائرة حائرة ! فالتصقت جلودهم بعظامهم فسألوا عن أبناء جلدتهم ، أي بكاء و أي لوحة أبلغ أو أعمق من هذا التوصيف لحالة الأمة كما وردَ في المقاطع الأخيرة من قصيدته , حتى أنه أصابنا بالذهول و أبكى قلوبنا ؟
لله دره من شاعر نظمَ ، فأوجعَ، فأبدع حين يقول :
” الناس فيها يا حبيبتي جياع / الناس فيها يحرقون الرملَ في المساءْ / لِيخبزوا غبارَهم / و يأكلوا عظامَهم / و يطعموا الضباع / لا لوْمَ لا خداعْ / الناس يا حبيبتي جياعْ ” / .
* ناقد وباحث أردني