الباب الثالث
الفصل السابع عشر
رواية قطار الزمن
النزوح والاستقرار
بعد الاستقلال اشتدت حركة النزوح من القرى والارياف الى المدن.. وهاجرت قرى باكملها الي المدن المجاورة لها او الى المدن الكبرى ومنها العاصمة بحثا عن المرافق والعمل والتعليم والصحة.. واكتضت المدن بالسكان القدماء والجدد الوافدين من كل حدب وصوب لتعدد المؤسسات والمشاريع والمعامل والموانئ والمطارات والمعاهد والجامعات.
ونشات الطبقات الاجتماعية الجديدة والاحياء السكنية المختلفة لتلك الطبقات الشعبية و البرجوازية الحديثة وغابت سيطرة الطبقة الارستقراطية المهيمنة سابقا وازاحت نفوذها الطبقة السياسية التي اعتمدت على المفاهيم الجهوية والولاء للحزب الواحد… فهيمن اتباعهم تدريجيا على المساحات الفلاحية الكبرى التي تركها الاستعمار بعد رحيله وعلى رخص المشاريع الكبرى والمتوسطة كرخص شركات البناء والفنادق والتور يد والتصدير والمصانع والشركات بأنواعها وتقاسم أنصار النظام الثانويين حسب ولائهم ما تبقى من الرخص الصغيرة كرخص التاكسي والمقاهي والتجارة بشرط استظهارهم بما يفيد انخراطهم في الحزب الواحد والحصول علي تزكية الشعب الدستورية ولجان التنسيق ونظافة الملف الأمني. ومنحت بعض رخص النقل بين المدن لبعض المجاهدين او أبنائهم الذين قاوموا فرنسا ولم يقاوموا بورقيبة وسياسته.. واعتمد بورقيبة على اتباع الحزب الواحد عموما الا انه لم يمنح ثقته ووزارات السيادة الا لعنصر السواحلية اي من كان أصيل الساحل وخاصة سوسة والمنستير..
. كان الشعب في مختلف الجهات يشعر بهذا التمييز في السياسة وما نتج عنه من إهمال للجهات الداخلية وفقر وتهميش الا انه يراه اخف الضررين وشرا لا بد منه للقضاء على القبلية والابقاء على جهوية واحدة وتمييزها عن بقية الجهات واخماد نار الفتنة والحروب الداخلية والخارجية وتحقيق شيء من العدالة في التعليم والصحة. ومحاولة ارساء دولة القانون…ومع ذالك فقد بدأ التململ واتسعت المعارضة والحركات السرية والعلنية كالاخوان واحزاب اليسار والقوميين. ولكن البوليس السياسي تمكن من قمع تلك الحركات مستعينا بالشعب الدستورية.ومليشيات الحزب..
في مثل هذا المناخ السياسي اختار مكرم المرناقية مستقبل الاستقرار لابنائه وأسرته رغم حنينه الدائم لموطنه الام وكان يعول على تعريفهم بارضهم أرض الاجداد وقبيلتهم ضمن بقية قبائل الجنوب الشرقي وانسابهم وقيمهم…
الا انه لم يكن يتوقع ما سيراه من صراع طبقي قبلي وسياسي بين ساكني القرية التي اختارها كمستقر له وأبنائه.
فحينما كان بجزر القمور كان كثيرا ما يشتاق الي تونس فيتامل خريطة الكرة الأرضية وقارة أفريقيا فتبدو له تونس أعلى الخريطة رقعة صغيرة وقرية من قرى العالم بجميع سكانها الذين لا يتجاوز عددهم عدد احد المدن الكبرى كالقاهرة او باريس او لندن. واليوم وهو بداخلها يرى بونا شاسعا بين جهاتها الساحلية والداخلية…
وقرر مكرم ان يجنب نفسه هاته الخلافات والجهويات والصراعآت وان يقاومها في عقول الناشئة بتوحيدهم حول مفهوم الوطنية ومقاومة العدو الخارجي المتربص والجهل وصراع الحضارات..
الا ان هاته الخلافات التي كانت سببا في قدوم المستعمر لم تكن في المرناقية وحدها وإنما في جميع المدن التونسية والعربية وفي الجامعة العربية وبين دولها..وتغيير الفكر ليس بتغيير المباني والملابس والازياء والمظاهر.. فلا بد من الصبر لأجيال وعقود فبناء العقول أعقد من بناء الجدران الاسمنتية….