مساؤكم سكّر
حكاية مدينة السّكاكر
مدينة السكاكر، مدينة باللون الأبيض اتشحت، وبثياب عروس أبيض تزينت ، رفلت بالأبيض عشقا للسكر . إن جُلْتَ فيها يوما نالك العجب منها: فبيوتها بالأبيض تلوّنت ،و أسواقها بالسكر وضروبه تحلّت ، وبمنتجاته من كل شكل ولون خيّرت وحيّرت ، وبأصوات باعتها المنتشية طربت وتغنّت ،أما مزارعها فغير البنجر وقصب السكر لا يُزرع ، وفي المصانع غيره لا يُعصر ، وفي الصوامع والمخازن غيره لا يُحْفظ ،أنتجت وصدّرت ، وطارت في الآفاق لهم معه حكاية .
عِشْقُ سلطانٍ جرى مجرى نمط حياة وعادة ، سلطانٌ ما فتئ يعمم عشقه ويرسم مصير قومه ،فلا بيع ولا شراء إلا به ،فالسكر كما أقنعهم طبيب السلطان وعالم السلطان وحكيم السلطان وخطيب السلطان، يجعلهم سعداء نجباء نشطاء ، لا للملل أو الكسل بينهم مكان، ولا لثقل الدم عندهم ميزان.
شعب رضي وارتضى لنفسه عِشْق غيره، فما كان منه إلا أن امتهن الصنعة في السكر ،وكل ما علق وتعلق بالسكر، أفنوا من الأعمار ما أفنوا في التفنن بابتكار صنوف من الحلوى والسكاكر لا حصر لها ولا عدّ ، فذاع الصيت وطارت في الأفق أخبار قوم للسلطان طائعين مطواعين ،وللصناعة والتجارة ماهرين ،ولخفة الظل وحلاوة اللسان مقدمين ،أما عن دماثة الخلق فهم متخلقين. فتوافد العباد من الشرق والغرب ،للتجارة أو السياحة ، فتنفّس المُعْدمون الصعداء وانتعش الفقراء بالصدقات وازداد الأغنياء غنى، وامتلأت الخزائن إلا قليلا …..
وذات يوم ذي برق خُلّب، أنجب السلطان خلفا جاء بعد عسر وطول انتظار، شبّ الوحيد الأوحد مدللا مُغَنّجًا ، كبُرَ وتمرّد على عشق السلطان للسكر ،فما في الحقول سوى قصب السكر والبنجر ، ولا في السوق إلا السكاكر والسكر، راود أباه عن عشقه مرارا ،وأبدى القلق من خزائن بطونها لم تنقعر بعد من التخمة، فحاور وراوغ ، داهن وداور ودون جدوى تذكر، لكن ابن السلطان ظل يذكرها ويذكّر بها ……حتى ….
جاء أمر من مُغَيّر الأحوال، فانقلب الحال، وَوَلِيَ الخلف سلفه، فانبرى بلا هوادة ، حاول بلا استسلام أن يجري خلاف مجرى أبيه السلطان الأعظم ، اجتمع وتوعّد ، لكنه قوبل بصدّ ووعيد ، فالأبيض بألوانه مَلَكَ عليهم حياتهم، فكيف التّضييع بالعباد والتفريط بمصالح البلاد ؟! ، فما كان منهم إلا : “لا انت ولا غيرك يغير حالنا هذه إلى أسوأ حال “،و “لن …ولن نُعيد الكَرّة ،فالسلطان الأعظم أسّسَ ورَسّخ ،ومع طول دهر وفناء عُمْر تأقلَمْنا بامتهانٍ واحتراف ، لا ….وألف لا”.
تحيّر الأوحد إذ كيف السبيل للطاعة؟ وكيف للإخضاع من قناعة ؟…أيام وشهور ،وظنّ الذي ظنّ أنه واحد لا شريك له في امتلاك رقاب العباد قد أفْلِتَ قيده من يده فاغتمّ وركبه الهمّ. وفي إعصار الأفكار وهوجاء المخططات ومقتلة الصراعات الداخلية النفسية ،طرق بائع الأهواء باب الملتاع للطاعة ،عرض الأبيض لكن ليس ككل أبيض فهو مفتاح أبواب كل الطاعات ، أبيض من نوع آخر ،أبيض فيه سرّ أسرار الخضوع والخشوع ،أقنع الحاكم :”هو ألذّ من السُّكّر يعدّلُ المِزاج، ويقلبُ العاصي بارّا والقاسي ليّنا هيّنا، يحكم قبضته على الكبار قبل الصّغار” ، ورسم بالأبيض لوحة للبلاد زاهية وللعباد باهية ،وأكمل مقنِعا: “يكونون بين يديك ،يتوسلون إليك ،يُقبّلون قدميك لينالوا منه شمّة …و…و…وكلّ ما يلذ لخاطرك ويطيب لأهوائك ” …ودون تردّد … أمر المُدلّل بدسّه …بنثره ….بنشره …فعمّ الهرج والمرج ، طال السواد والشر العباد والبلاد ،تطاول الصغار على الكبار ، طارت اللعنات و السبائب في كل مكان ،عمت السرقات وانتشر القتل والفتك وهتك الحُرُمات، آن الأوان الآن ….انتشر العساكر في كل مكان ، أحكموا القبضة واجتأفوا المعارضين والمُمْتَنِعين ، أيام وشهور …..وانقلبت مدينة السكاكر ……إلى مدينة العساكر بامتياز.
بقلم سيرين بدير