وشوش البحر بسلام…
بقلم – جمال الدويري
بعد إن تحجرت القلوب وبردت أحضان الأهل والبشر, وتسلل منها آخر خيط دفئ يتيم ودعته رعشتك الصغيرة الأخيرة نحو السماء,
أرقد بسلام توشوش البحر وتبوح له بمذكرات أمة وتاريخ إنسانية غير إنسانية.
كم أنت كبير أيها الصغير وأنت تبوح للموج برسالة شوق للأهل والحياة, وصلت سابع السموات وصاحبها سبحانه, مارقة من خلالنا كما يمرق السهم من الرمية, دون أن تلامس وجداننا وصحوتنا.
كم أنت كبير أيها الصغير وأن تودع البحر الشفوق, آخر مكاتيبك المعتذرة على المغادرة المفاجئة دون أن تستطيع حماية الأهل والسلام, من بطش الجبابرة وتجار الموت, ودون أن تستطيع ان تدفع عنهم مآلك وما صرت اليه.
غادرتهم, ولم تترك لهم راع غير الله, وحماقة أفطنهم, وشر شياطينهم وزمهرير صدورهم الثلج.
إحتضن أيها الصغير رمل الشطئان الأوروبية كما أحتضنتك, ولا تحزن فهذا الرمل كان الوحيد, على إختلاف لغته وأبجدية وجدانه, الذي فهم آخر أناتك وتالي حشرجاتك الحرّى التي ودعت الارض الى صاحب الارض والسماء, من خلقك أول مرة, بعد ان صارعت بشجاعة الأبطال ذلك الموت الأرحم الذي خسرت أمامه بالنقاط فقط.
ولا تجزع أيها الملاك الراقد هناك, وقد فاتتك سفينة نوح, حيث من كل زوجين إثنين الا من جنسك.
الحمير والبغال والكلاب والضباع وابن آوى, وغيرهم من الكواسر والوحوش, تسابقوا وارتقوا السفينة وترتحوا بشفافيل الحياة والنجاة, دون أن يتركوا لك يا صغيري قيد أنملة من مساحة على متنها,
أو ربما كنت عند الحسم أكثر كرما وإيثارا من كل قساة القلوب وأصحاب الذنوب المتسابقين, فتركت لهم طوعا حيزك الصغير مع نوح عليه السلام الى رأس الجبل,
ولربما كان حبك لنا أكبر بكثير واصدق بكثير من قسوتنا وتحجر قلوبنا.
وشوش البحر بالتركية واليونانية والألمانية, وعلمهم عربيتك التي بخلوا عليك بها أهلك.
وشوش البحر يا طارق الصغير الكبير, وقد حرقت قلوبنا الباردة, دون أن يكون لك سفينا تحرقه.
إذهب يا صغيري بسلام, واتركنا لجهالاتنا دون سلام.
وسلم منا على كل الصغار الكبار الذين ينتظرونك هناك تحت ظل شجرة من شجرات الجنة, وحتى لا تنقطع سلسلة الشجعان الصغار, تحية إلى علي الدوابشة, فمن يشفق على ضحايا الحريق أكثر من غريق.
وأنت ايها البحر, سلام عليك وسلام لك, فقد كنت أرحم بكثير منا جميعا وأكبر قلبا منا جميعا وأدفىْ حضنا منا جميعا, ولن نخافك بعد اليوم.
جمال الدويري