بسم الله الرحمن الرحيم
وصفي التل يوم حزن وذكرى
بقلم\ فخرإسماعيل حسين محاسنه
تاريخ يمر ، وأيام تطوى ، نعيش مع متطاولين أغبياء ، ومتحذلقين أدعياء ، ويحكمنا مسؤولون مأزومون ، عقولهم مقفلة ، وسياستهم مهزلة ، تحملهم المناصب والألقاب ، وتسندهم الجدران والأعتاب ، لايذكرهم إلا شلل ساقطة وأذناب ، ما عرفوا الوطن إلا بقرة تحلب ، أو مقاصة تنهب ، أو غانية ترقص وتطرب ، ويرحل عنا كبار أعزاء ، ورجال أوفياء ، رجال لا شبيه لهم ،وما زال ذكرهم مشاعل نور مضيئة ، ورماح مجد مغروسة ، أهل علم وعمل ، وبشائر تفاؤل وأمل ، عرفوا الحق والواجب ، وترفعوا عن المكاسب ، فتشرفت بهم المناصب ، نأسى لفقدهم ، ونفخر بذكرهم ، ومازلنا نهتدي بنورهم ، ونسير على دربهم ، يعيشون معنا كأنهم أحياء ، ومن تسللوا إلى مناصبهم ، وجلسوا على كراسيهم ، أموات بجلود أحياء ، فقدوا المروءة والحياء . فأين هؤلاء من وصفي ؟!
في مثل هذا اليوم وتحت ظل العلم ذرفت عين الوطن أغزر دموعها ، وبكى معها كل أحرار العالم ، يوم امتدت يد الغدر الآثمة ، وآلة الحقد الباغية لتنال من فارس الحرب والفكر والكلمة والموقف ، وعلم الوفاء والإخلاص ، مفخرة الشخصية الأردنية والعربية ، وأسطورة العزم والنضال ، دولة المرحوم وصفي التل ، الذي حمل الوطن ، والقضية الفلسطينية في قلبه حبا كبيرا ، ليدفع ثمن هذا الحب دما طاهرا ، وروحا زكية ، رحلت إلى ربها يشيعها ملوك الرحمن ، وتزفها ملايين دعوات الرحمة والغفران ، لأنه نبت مع سنابل القمح ، فأحس عذاب الحصادين ، ووجع الدارسين على البيادر ، وغنى معهم في مواسم خير الوطن ، وحمل همومهم ، وفتح لهم قلبه قبل أن يفتح لهم أبواب رئاسة الحكومة والوزارات مشرعة ، وأخذ بيد المواطنين على السواء بلطف الزعيم الأصيل ، والمسؤول النبيل ، ودم الأردني الحامي فاتحا قلبه لهم باتساع الوطن من إجفوره إلى غوره ، ومحملا نفسه ديونا على ذمته قاربت المائة الف دينار من أجل تطوير مزارعهم ، ومضاعفة غلالهم ، وتحسين حياتهم ، مؤمنا أن امتلاء كوايرهم ومخازنهم هي خزينة الوطن التي تبنيه ، وتعلي صروحه ، لا منقضا على جيوب الفقراء كوحش مفترس يدق عظمهم قبل أكل لحمهم كما تفعل حكومة شيلوخ اليوم .
وصفي رجل بألف رجل ، حباه الله أجمل صفات شخصية ، صادق ، مخلص ، صقر يطارح الناس بوداعة الحمائم ، يحمل روحا وثابة وطنية ، وهموما قومية يعربية ، آثرالموت على الدنية ، فحمل روحه على كفه على الفضاء بين عمان والقاهرة بنفس راضية مرضية ، غير آبه بمؤامرات الخونة وشلل الموت الظلامية ، ولا بصيحات التحذير ونصائح رفاق الدرب ، ليعلم رؤساء حكومات الورق ، ووزراء الكرتون أن الوطنية شجاعة وتضحية ، وأن المسؤولية فكر وعمل ، وليست كراس ومناصب وجخجخات ، ولا رحلات ومهرجانات ، أوبيع كلام وتصريحات ، أو قوانين يدوسها أصحاب النفوذ والعباءات ، فسجل في سفر التاريخ ذكرى عظيمة ، وإن كانت حزينة وأليمة .
لله درك يامن سبقت أفعالك أقوالك ، تتقن عملك قبل أن يعذلوك ، وتحاسب نفسك قبل أن يلوموك ، وتنتقد نفسك قبل أن ينتقدوك !! فتقول : ” لم أتعلم مداراة السياسيين ، ولا الرأي العام ، لأن واجبي أن أقول الحق ، وأخدم الناس ” فمن يجرؤ أن يقول هذا وبكل صراحة ، وعلى مسامع كل الناس ؟! ومن يجرؤ أن يقول مثلك : ” عيوبي ؛ القسوة ، والصراحة ، والشراسة ، فليقم كل وزير بعمله ، ويجيب عن نفسه ” نعم يا سيدي أنت صريح ، ، لكنك لست قاسيا ، ولا شرسا ، صراحتك الصادقة صفة نبيلة ، وشرف وفضيلة ، ليتك اليوم بيننا لترى كم ممن يسمونهم كبارا امتهنوا الكذب والدجل ، وركبوا ذيول الثعالب بالمراوغة والحيل ، فشكلوا جيوشا من الأفاعي والثعابين ، واتخذوا رسلهم من الشياطين ، نقدك لنفسك ليس عيبا ، وحديث الناس عن حسن أفعالك ليس كذبا ، ولا يغرنك ما ينطق به أصحاب الأعناق المتطاولة ، والألسن الطويلة ، فضؤك لا يحجبه غربال العجزة ، لكن صاحب الرؤية البعيدة ، والنظرة الثاقبة ، تكرهه الأقزام ، وأبيض اليد ، وطاهر الثوب تحاربه سماسرة الكرامة والخنا والحرام ، لأنه يصعب عليهم أن يروا ما كنت تراه ، وما يوحي به قلبك ليمناك ، فأبعد ما تراه عيونهم رؤوس نعالهم ، وأجل ما تحمله قلوبهم الملوثة دم فاسد ، وحب قبيح ، ومشاعر ملوثة لبائعات الهوى في سهرة دفعت فاتورتها سلفا من جيوب المواطنين .
لله درك يا وصفي ، لقد عشت حرا ، وكان فراقك صعبا ومرا ، رحلت وروحك تحمل قسم وفاء لهزاع الذي رفض أن يحفر جحرا لفئران الفساد ، فمت كما مات غدرا وغيلة ، فقد كان رمحا شامخا ، وكنت سيفا لا معا ، رحلتم وماتت معكما كل روح وطنية أصيلة ، فقد حاربوا المخلصين ، ولفقوا التهم للوطنيين ، واستبعدوا أبناء الوطن الصالحين مثلما حاربت بني صهيون ، غبت يا وصفي وما زالت ذكراك حية تراقصها الأشجار ، وتكشف وجوها مقنعة أخفت تحتها الذل العار ، وستظل يا وصفي جمرا متوقدا ، وعلما على رأسه نار ، ونجمة مضيئة في سجل الأحرار ، وقصة مجد محفورة على قلوب الأطهار ، وسيف القضية البتار ، ودلة تفوح منها رائحة البهار ، وكف حر تدوس الثعابين ، ولسانا يفضح كيد الحاقدين ، رحلت يا وصفي وستظل ذكراك رصاصة في قلوب كل المتآمرين والمتخاذلين ، ولطمة كف حرة بوجه كل العجزة الفاشلين .
ليتك اليوم بيننا يا أبا مصطفى لترى قصور أصحاب الدولة ، الذين لا صولة لهم ولا جولة ، وقصور وزراء العتمة ، الذين لا برق يلوح لهم ولا غيمة ، فلا حلاوة لخطاب ، ولا عيشا بوجودهم يستطاب ، جاؤوا فرحل الخير ، وتربعوا على كراسي المزاد كالسلاطين ، وجلسنا على التراب والطين ، حتى اصفرت أوراق حدائقنا وبساتيننا ، فأجدبت مرابعنا ، وأفرغت خزائننا ، فعزت على بعضنا اللقمة ، ونام أكثرنا على العتمة ، جثموا على الأرض فما عادت تحمل ثقلهم ، وتفننوا في تجويع الناس ففاض صبرهم ، حتى صار كل بيت يتعوذ منهم ويلعنهم ، ليتك اليوم بيننا لترى أن جيادنا قد ماتت ، فلم يعد لنا خيل تعانق الريح ، ولا فرسانا تنقذ الوطن ، وترد عنه المآسي والمحن ، ليتك اليوم بيننا لترى أعناقا طامنة تطاولت ، وجباها ذليلة تمددت ، ورؤوسا كانت كثمار السرو تضخمت ، وأشباه رجال ليس لهم سعر بسوق الحلال تنمرت وتفرعنت ، لكنها لحكومات الغرب ، وابناء صهيون ،طأطأت وتذللت ،وبأمر بنك الدعس الدولي إئتمرت ، ولنسمة عطر هبت من صدور الغانيات شواربهم على أقدامهن تبعثرت .
أين أنت يا وصفي ؟! فرؤساء حكوماتنا وحيتان البر قد زرعوا البلاء وهجوا ، وأوهموا الناس أنهم في رحلة مقدسة حجوا ، وأقسم إعلامنا الأسيرأنهم ما فرطوا ، وهم في أقبح الأعمال وشرها قد تورطوا ، فاين حكومة اليوم التي أسرجت على القطط ، من حكومة وصفي التي بنت الخطط ، وامتطت صهوات محبة الناس ، ونصبت أشرعة الخير ، وحملت معاول البناء شعارا للانتماء إلى الوطن ، فكانت أنموذجا للسياسة الراشدة ، والإدارة الناجحة ، فصدرت انتاج معان من القمح إلى دول الجوار ؟! وأقسم صادقا ومعي ملايين أنهم مشلولون ما بادروا ، ولا ناوروا ، وعلى الخزينة نهبا وجيوب المواطنين تداوروا ، فمنهم من رحلوا ومدوا ، ومنهم من تهيؤوا وعلى حميرهم شدوا .
أين أنت يا وصفي ؟! فقد صار الأصيل في وطنه سائح ، والأردني في وطنه غريب الملامح ، يدفع ثمن الماء والهواء ، ويستجدي الدفء والدواء ، أين أنت يا وصفي فنحن نريد بيتا يسع الكل ، ويداوي الاهمال والذل ، نريد قانونا يساوي بين الجميع ، ويقطع يد من يسرق ولسان من يدلل على وطنه أو يبيع ، ولا نريد قانونا على الورق يحفظ كلمة العدل والتساوي ، ولا طربوشا يخفي تحته البلاوي ، أو طبيبا عاجزا لا يداوي ، لا نريد عباءة تخفيني ، ولا عشيرة تقصيني ، أريد قانونا فاعلا يحميني ، وحكما عادلا يرضيني ، ومسؤولا حازما بغيري يساويني ، فأنا لست لاجئا ، ولا وافدا ، ولا سائحا ، أنا ابن الوطن ، هويتي أردنية ، ودمائي عربية ، أولى بخيره من الحيتان والغربان ، وفراعنة الخنا وعشاق الصدور والسيقان ، ووضيع صار بليلة عظيم الشان ، قم يا شهيد الوطن ، ويا مغترب الكفن ، لتقول معنا ارحلوا من وطن الحب والوفاء ، فما أنتم كبار ، ولا عداد لكم حتى مع الصغار ، فما كبرتم بعقولكم ، ولا بحسن فعالكم ، لكنه الحظ بفخامة المناصب ، وكشوف الرواتب ، الذي البسكم المثل القائل ” كبرت عزيزة أم رقعة ” فارحلو غير مأسوف عليكم ، فلا مقام لكم بيننا ، ودعوا الوطن لرب الوطن ، وللمخلصين من أهل المروءة والفطن ، فقد مللناكم وكرهناكم ودفناكم ، واصبحت مسامرة الأموات خير من رؤياكم .