ويْلهم إذا شمّرت
قصة قصيرة بقلم علي الشافعي
جدتي ــ يا دام فضلكم ــ كانت ممن يسمّون عندنا بالنيراني , سريعة العمل والإنجاز , وتحب كل من يتعامل معها أن يتصف بهذه الصفة , ويا ويل كنتها وبناتها إن تأخرن في إنجاز ما تطلبه منهن , قوية فتية لا أذكر أنها زارت طبيبا في يوم ما, كانت تسكن في غرفة صغيرة بجوارنا , فاعتدت منذ الصغر أن أبيت عندها ,فالجو هادئ عندها للدراسة من جهة , وهي طيبة ومسلية من جهة أخرى, فكنت أحب أن استمع إلى أحاديثها , وخاصة القصص والحكايات والأمثال, والبلاد واللجوء وهمجية المحتل مما شاهدت وسمعت , وأحيانا الأغاني والتراويد , فكثيرا مما كتبته عن البلاد مأخوذ من فمها مباشرة , وكان الحب بيننا متبادلا , فانا أول أحفادها وأطوعهم لها وأقربهم إلى قلبها .
في يوم من الأيام كانت تعمّر الكانون قبيل المغرب , والكانون لمن لا يعرفه وعاء من المعدن أو الطين توقد فيه النار شتاء للتدفئة , أحضرت كل شيء واشعلت النار وجلست, لكنها نسيت الملقط (أداة لترتيب الجمر في الكانون منعا لتساقطه على الأرض ) فقالت : يا ستي برضاي عليك تحضر الملقط , تجده بجانب الحطب , قمت طبعا وأخذت أبحث عنه حتى وجدته , لكن الأمر استغرق بعض الوقت , قالت وهي تضحك :والله يا ستي أنت طبقت المثل , قلت : أي مثل يا جدة؟ قالت : مثل من ( أقاربه ذبِّحوا وهو يتشمر ) ,قلت أريدك أن تحدثيني قصة هذا المثل بعد أن أنهي دراستي ونتهيأ للنوم, فهزت راسها بالمواقة ,وفعلا عندما أوينا للفراش أنشأت تقول, وسأنقل ما قالت مع شيء من الرتوش التجميلية بعد أن توحدوا الله وتصلوا على نبيه :
كان ياما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان قبيلة من القبائل المنتشرة على طول بلاد بني عرب وعرضها , شيخ القبيلة حاز المجد من أطرافه فورث المشيخة كابرا عن كابر , وطبعا وعلى العادة كان رجال القبيلة يجتمعون عنده كل ليلة , يتسامرون ويتعللون ويستمعون إلى الشعّار والرواة وهم يشيدون بأمجاد القبيلة ومفاخرها وأيامها , وقصص الشجاعة والكرم التي يتميز بها شيخ القبيلة , وكان الشيخ يغدق الأموال الطائلة عليهم ليذيعوا صيته بين العربان , وكان أيضا يحرص على أن يجمع حوله بعض الندماء الذين يزينون للناس ما يقول الشيخ ويفعل , ويؤمّنون على قصصه عن الفروسية والشجاعة والكرم , وبلائه في المعارك التي خاضها مع الخصوم , وأن الأمان الذي تنعم فيه القبيلة بسببه خوف الأعداء من بطشه وسطوته , ويختم دائما حكاياته بقول: ( يا ويلهم إذا شمّرت عن ساعديّ وساقيّ وحملت النبوت) . والنبوت لمن لا يعرفه عصا طويلة بطول الرمح, تقطع من فرع شجرة ثم تثقّف وتهذّب وتشوى بالنار وتسقى بالزيت, فتزداد قوة وصلابة. وطبعا كلما سمع القوم كلامه أسندوا ظهورهم إلى واسط البيت , وحمدوا الله إذ وهبهم شيخا بهذه المواصفات , فلا يهابون الغزو . ثم يتناقل الشعراء ذلك الحديث ويقولون فيه القصائد العصماء التي سرعان ما تقطع الفيافي والقفار وتجوب البوادي والأمصار فتدار معها الفناجين , ويسهر عليها السمار .
في ذلك الزمان كانت القبائل تعيش على الغزو والسلب والنهب ,وكان سلاحهم السيوف والرماح والعصي , سمع أحد زعماء القبائل بشيخنا فغاظه ذلك , فقرر أن يعزوه ليحطم كبرياءه وغروره, وليصبح هو مقصد الشعّار والرواة , وفعلا هجم عليه في ليلة غاب قمرها وأظلمت سماؤها وبرد جوها , فهب أهل القبيلة إلى الشيخ فقال لهم : لا تقلقوا , الويل ثم الويل للغزاة إذا شمّرت وحملت النبوت , ناوشوهم أنتم ريثما أتجهز . قاوم الرجال قليلا ولكن سرعان ما هُزموا , فهرعوا للشيخ : شيخنا الغزاة كثيرون لا طاقة لنا بهم , قال : لا تهتموا انتظروا قليلا حتى أتشمر ,وبعدها سترون عجائب أفعالي . بعد فترة عادوا : يا شيخ قتل فلان وفلان وعلان وأُحرقت البيوت ونهبت الأموال ,قال : لا يهمّنكم هذا , سترون ماذا سأفعل بهم , فقط انتظروا ريثما أشمر وأحمل النبوت . يا شيخ : سبيت النساء والأطفال , قال : لا تهتموا دعوني أكمل استعدادي وبعدها سترون , يا شيخ : نهب بيتك وأخذت زوجتك وأموالك ومواشيك , نفس الإجابة , وأخيرا أنهى الشيخ استعداده وخرج ليجد نفسه وحيدا بملابسه الداخلية فقط فقال : أخ لو انتظروا حتى أنهي استعدادي, لكنهم جبنوا فهربوا . قلت هذا المثل يشبه المثل العربي المشهور : أوسعتهم شتما وفرّوا بالإبل .
أما الذي ذكرني بالمثلين ــ يا رعاكم الله ــ هو ما ترون وتسمعون من قرع طبول الحرب في كل مكان , العالم كله يقف على ساق واحدة , يحبس أنفاسه خوفا من غلطة قد تفني البشرية, الكل يستعد ويطلق خيله من عنانها وينشر أسلحة الفتاكة في طول بلاد المعمورة وعرضها , والتهديد والوعيد , مما ينذر بحرب عالمية جديدة , إلا نحن! وكأننا خارج هذا الكوكب ,فلا نًعدّ للقادم عدّته وأصلا ليس عندما ما نعدّه , كيف لماذا ؟ لا أدري , أقوياء على رعايانا وذوي القربى ,خور في معاركنا مع أعدائنا , دائما نحتفظ لأنفسنا بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين , نتساءل متى وأين ؟ فلا من مجيب . طابت أوقاتكم .
قصة علي محمود الشافعي