أخر المستجدات
الرئيسية » أدب الكتاب » أوركسترا الغياب للاديبة رولا حسينات

أوركسترا الغياب للاديبة رولا حسينات

اوركسترا الغياب
عبرت قناديل الليل برعشات العويل والغربان تنعق على الأدواح العارية وقد هجرتها البلابل وحل الليل ببهيميته على الأرض المحترقة، ودويُّ القنابل قد أجج سعير البيوت العتيقة وقد تهادر ركامها لتسوى في الأرض، لملم السكون المطبق على الصحيفة في خريف 2008 وقد حمل أوزار الأطفال الذين وأدتهم القنابل الإسرائيلية في سني عمرهم الشقي، غزة تحت القصف كما كانت بيروت تحت القصف كما كانت سينا والجولان في السبعينات والفلوجة في الألفية الثانية تحت القصف، حرب الاستنزاف وحرب الميليشيات وحرب التنازلات وحرب القهر، ثمنها بخس.. آلاف من القتلى تتمدد جثثهم جيفا لآكلات الجيف لتنهشها الضباع، وتتسابق إليها كل الهوام إلا البشر.
كانت أصواتهم منعدمة حولي لكني كنت موقنا أنني في الجنة مع الحور العين، كل ما حولي مغطى بالبياض لكني مازلت اشتم ريح أمي وخبز الطابون، وجدتي وأبي.. دفاتري وأقلامي رسوماتي القتيلة، دفنت وإياي كنت أرى الملائكة بأجنحتها من نور ترفرف حولي، تُسكن عليّ وحدتي حشري تحت الأنقاض، أنفاس من برد جعلت الملائكة تمسكني من أطرافي، وتحملني إلى الأعلى، لم أكن اعرف قبض الأرواح وما رأيت قبلا ملك الموت، أحاديثنا الطفولية كانت عن المرح عن سميرة الحلوة بنت الجيران، من يعشقها هاني ابن الأستاذ نبيل مدير مدرستنا البهاء الابتدائية، وعن لعبة القلل الزجاجية.
عندما كنت أُسمعهم شيئا من قصاصات الجرائد التي تقع بين يديّ مما تحزم به الخضراوات عندما كان أبي يأتي بها من عند الخضرجي أبي جميل، ثم يمسك المذياع البني الكبير وقد جعل كالبيت الخشبي، بلهفة وحرص يدير مقبضه باحثا عن إذاعة صوت العرب، ثم يستند إلى الأريكة الخضراء وقد أراح قدما على الأخرى، وأخذ يطوح برأسه مبعثرا النوتات الموسيقية من بين أنامله كقائد اوركسترا ينشد سيمفونية ل موتزارت، لكنه كان يلحن لحن الأخبار، دوما كان يردد: أخبار من غير بلدك هي الأصدق وقت الحروب.
نعم، الأكثر شفافية لأنها تفرض حزاما ناسفا على الخيط الرفيع، الذي يقبع ذليلا بين المواطن والحكومات، خيط قد أصابه الترهل والعوز والجوع وعانى من التقشف وويلات التضخم والاحتكار، خيط انعدمت شفافيته ليحل العذاب.
– استعدادات الحرب…يا طفلي الصغير المصريون سيقاتلون اليهود وسينتصرون، عبد الناصر هكذا يعد شعبه ونحن مع عبد الناصر… ويسير في البيت الصغير في الحجرة المجذوبة الأطراف، وما يلبث الصياح يملأ البيت كنت ابن الثلاث سنوات، ألهو مع لعبة المسدس مرتديا زي الجيش جسدا ضئيلا ينغمس بالأكمام الطويلة، بلونه الأخضر وقد تبعثر الأسود عليه بعشوائية، أتذكرها بغشاوة كما هي غشاوة الغازات المسيلة للدموع كما اليوم، وأمي تقبلني وتمسح ما علق بها من عروسة الزعتر.

L’image contient peut-être : une personne ou plus, personnes assises et plein air

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.