أخر المستجدات
الرئيسية » آخر الأخبار » اصح يا نايم…خاطرة بقلم علي الشافعي

اصح يا نايم…خاطرة بقلم علي الشافعي

حديث الجمعة بقلم علي الشافعي
(اصح يا نايم ) خواطر وذكريات
ظاهرة اجتماعية ــ يا دام سعدكم ــ افتقدناها في شهر رمضان المبارك , انقرضت او كادت مع ما طرأ على مجتمعاتنا من تغيُّر , وتبدّل احوالنا وغزلاننا . انها ظاهرة احببناها وقلدناها وغنينا معها صغارا , واعتدنا عليها كبارا , حتى اصبحت من طقوسنا الرمضانية الجميلة , اللتي تحلي سحورنا وليالينا الرمضانية , انها ظاهرة المسحّر كما اعتدنا ان نطلق عليه في فلسطين , و(المسحِّراتي ) كما يضلق عليه اهلنا في الكثير من البلاد العربية . اعتدنا عليها في ليالي الشهر الفضيل , فغدت محفورة على جدران القلوب والعقول , المحببة إلينا منذ نعومة أظافرنا , افتقدناها في خضم المتغيرات التي طرأت على مجتمعاتنا , والتي همّشت الكثير من المهن , وخسّرتنا الكثير من القيم الاجتماعية . ذكرني ذلك بالشيخ خليل الحثناوي (ابو احمد ) ناطور ومسحِّر قريتنا الذي اعتدنا رؤيته ايام الطفولة .
ابو احمد ــ رحمه الله ــ مسحِّر البلد في الشهر الفضيل , وناطورها باقي ايام السنة , كان رحمه الله حلو المظهر والمعشر , حلو الحديث كثير الحفظ , سريع البديهة حاضر الذاكرة , يمتاز بصوت ندي شجي قوي . ما زلت اذكره في ليالي الشتاء الماطرة شديدة البرودة , يلبس الجلابية الطويلة فوقها بالطو ثقيل ( كوت طويل الى ما تحت الركبة ) اضافة الى قطعة من الشادر الذي لا يتسرب الماء من خلاله , يعمله على شكل العباءة المغربية تقيه المطر , معه ابنه يحمل قنديلا يضيء له دروب الحواري الضيقة المظلمة , يعلق ابو احمد في رقبته طبلا كبيرا , وبيده عصا يعزف بها على الطبل اعذب الالحان ( اصحا يا نايم , وحد الدايم , رمضان كريم , يـا غافي وحّـد الله , يا نايم وحّد مولاك , وللي خلقك ما بنساك , يا ابو العبد يا ابو محمد يا ابو علي : وحدوا الله ) . ثم يتبع ذلك ببعض التسابيح والتهاليل والمدائح النبوية , في مشهد روحاني يأخذ بالألباب .
اما الناطور فالكثيرون لا يعرفون معنى كلمة ( ناطور البلد او المنادي) , فقبل اختراع مكبرات الصوت , وسائل الاتصال الحديثة , كان اهل كل بلدة من بلدات الريف الفلسطيني يتفقون على رجل يمتاز بحلاوة الصوت وقوته وحلاوة الهيئة , فيعينوه ناطورا او مناديا للبلد ويطلقون عليه اسم ( ناطور البلد), لإعلام الناس بما يستجد من احداث في القرية , كوفاة احد الاهالي او عرس او فقدان حاجة , فيدور في ازقة القرية وحواريها يبدا عادة بعبارة ( يا سامعين الصوت صلوا على النبي ) ثم يعلم الناس بما عنده مثلا : ( غدا بعد العصر جاهة فلان لبيت علان لطلب يد بنته , وهذي دعوة للجميع والتجمع امام بيت المختار) . وكذلك اشهار الزواج او حالات الوفاة , اما اذا فقد احدهم شيئا تكون المناداة : ( يا سامعين الصوت صلوا على محمد : يا من شاف , يامن سمع يامن علم عن عنزة بيضة فتلة( قصيرة الاذنين) ضاعت من امس , الحلاوة مع البشارة بالصلاة على النبي , واللي ينكروها محمد خصيمهم ) وهكذا . وطبعا الرجل لا يتشرط بل يكتفي بالأجر القليل , حسب ظروف الناس وما يتوفر لديهم , فقد تكون الاجرة صاعا من قمح او فول او حمص او عدس او لبن او زيت او رغيف خبز او قرشا , كل حسب مقدرته في اجواء يسودها التالف والتكافل افتقدناها هذه الايام .
ظاهرة المسحراتي قديمة قدم الفريضة الفضيلة , فقد كان بلال بن رباح أول مؤذّن في الإسلام وابن أم مكتوم يقومان بمهمّة إيقاظ النّاس للسّحور . الأول يؤذّن فيتناول النّاس السّحور، والثّاني يؤذن فيمتنع النّاس .
في مكة المكرمة ظهر “الزمزمي” ينادي من أجل السحور ، وكان يحمل قنديلين كبيرين , حتى يرى نور القنديلين من لا يستطيع سماع نداءه من فوق المسجد .
ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية تعددت أساليب تنبيه الصائمين , وعرف المسحراتي ، ذلك الرجل الذي يحمل طبلة وعصا صغيرة ويلف على الأحياء والشوارع، يوقظ الناس من نومهم، ويشعرهم بأن وقت السحور قد حان ،
لكن «التسحير» في المجتمع الإسلامي لم يصبح حرفة إلا في بغداد زمن الدولة العباسية حيث ابتكر البغداديون فن «القومة» وكان مختصاً بالغناء في سحور رمضان , وإن كان التاريخ لم يحفظ لنا منه إلا نماذج قليلة , معظمها منسوب لصفي الدين الحلي وموضوعها التسبيح والابتهال ٬ وكان مسحّر بغداد يستعين بمختلف الآلات الموسيقية في عمله٬ كما اختص بعض المسحرين بمنزل الخليفة وأهل بيته.
في مصر لاحظ واليها “عنبسة بن إسحاق” أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور ، ولا يوجد من يقوم بهذه المهمة آنذاك , فتطوع هو بنفسه فكان يطوف شوارع القاهرة ليلا على قدميه لإيقاظ الناس وقت السحور مناديا : “عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة” . وفي عصر الدولة الفاطمية أصدر الحاكم بأمر الله أمرا لجنوده بأن يمروا على البيوت ويدقوا على الأبواب بهدف إيقاظ النائمين للسحور، ومع مرور الوقت تم تخصيص رجل للقيام بمهمة المسحراتي ينادي : “يا أهل الله قوموا تسحروا”، ويدق على الابواب . تطورت بعد ذلك ظاهرة التسحير على يديهم ؛ حيث ابتكروا طبلة صغيرة “بازة” يحملها المسحراتي ليدق عليها بدلا من طرق الابواب ، ثم تطورت المهنة فاستعان المسحراتي بالطبلة الكبيرة التي يدق عليها وهو يشدو بأشعار شعبية وزجل خاص بهذه المناسبة : (اصحى يا نايم وحد الدايم , وقول نويت بكرة إن حييت , الشهر صايم والفجر قايم , ورمضان كريم ) .
اما أهل الشام قديماً يُسحرون الناس بدق الطار أو الدف كما يعرف اليوم, وضرب الشبابة والعزف على العيدان والطنابير والصفافير وغناء بعض الأشعار والأهازيج الداعية إلى التسحير , في جوقة غاية في الجمال , متماثلة في اللباس الشامي الاصيل , ومنها اخذت العراضة الشامية المشهورة في المناسبات الدينية والاجتماعية .
المسحراتي في السودان كان يطرق أبواب الحي ، ومعه طفل صغير يحمل فانوساً منشدا :« أصحوا يا نايمين يا مدونيين، أصحوا يا جيران . أصحوا يا ناس يا حلوين ، أصحوا وأسحروا ، وقولوا نوينا نصوم رمضان ، اصحى يا نايم وحد الدايم».
اما اهل المغرب فكان ( النفّار )، يجوب الشوارع بمزماره المتميز لإيقاظ الناس للسحور بملابس تقليدية خاصة , وكأن عمله تتمة للوحة رمضانية لن تكتمل إلا بوجوده . ( جاء رمضان تـان تـــان تـــان , مشى رمضان تــان تــان تــان . لا إله إلا الله ربي وحده , لا شريك له هو الوحيد سبحانه) .
في السعودية ودول الخليج واليمن كان «أبو طبيلة» أو «المسحّر» ، يلف الأحياء والشوارع يردد عبارة «اصحى يا نايم وحد الدايم ، ربي قدرنا على الصيام، وأحفظ إيماننا بين القوم , أقعد أقعد يا نايم، أقعد أقعد يا نايم، وأذكر ربك الدايم ).
وبعد ــ يا دام فضلكم ــ فالمسحّر صورة حفرت في عقل ووجدان وضمير كل المسلمين صغارا وكبارا ، شيبا وشبانا رجالا ونساء , تمثل كثيرا من المثل والقيم الاسلامية السامية ومبادئ التكافل والتعاطف والتراحم , والارث الثقافي والحضاري لامة تاهت وطاشت سهامها , ساق الله ايام زمان . طابت اوقاتكم

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.