بقلم علي الشافعي
الفرق كبير ـــ يا دام عزكم ـــ بين تعبيري : سلطان العلماء وعلماء السلطان ؟ كالفرق بين الذهب الرشادي التركي ( تعرفونه طبعا ) والذهب الروسي المزيف . لتحليل هذه المقولة ــ يا دام سعدكم ـــ لا بد ان ننبش قليلا في المقبرة التي دُفنت فيها كتب تراثنا المجيد , لننفض الغبارعن قامة رفيعة من قامات هذا التاريخ المغيب عن انظار جيل لا يعرف عنه الا بمقدار معرفتي بنسبية أينشتاين . اتحدث عن (سلطان العلماء) , الذي قرّن الامراء في الأصفاد وانزلهم الى سوق النخاسة , فبيعوا هناك ثم ردت اثمانهم لبيت مال المسلمين . من هو هذا الرجل ؟ الرجل ؟ من هو مقرن الامراء في الاصفاد ؟ لكم اذن اقول وعمر القارئين والمتبصرين والمتفكرين يطول , فاستمعوا يا رعاكم الله :
انه سلطان العلماء وزعيمهم وبائع الملوك والامراء , صاحب الكلمة والمواقف الثابتة الراسخة رسوخ الجبال , رغم كل ما تعرض له من مِحَن , انه العالم الجليل العز بن عبد السلام , او هكذا اشتهر ؛ واسمه الحقيقي ( هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم ) المغربي أصلاً ، الدمشقي مولداً ، ثم المصري داراً . لقب بسلطانَ العلماء وشيخَ الإسلام ، ولقب أيضا بعز الدين ، ولقب ببائع الملوك والأمراء ، وشاع بين الناس الإمام العز بن عبد السلام . فقيهٌ عالمٌ بالحديث والتَّفسير، درَّسَ وأفتى وصنَّف وتولى القضاء .
نشأ العزُّ بن عبد السلام في أسرة فقيرة ، وكان هذا من الأسباب التي جعلته يطلب العلم بعد أن أصبح كبيرًا في السن ، وقد أتاح له ذلك – مع اجتهاده في طلب العلم وصبره عليه – أن يتفقه كثيرًا ، وأن يعي ما يحصّله من علم أكثر من غيره . من أهم ملامح شخصية الشيخ (رحمه الله) علمه وفقهه ، فقد تميّز الشيخ وبرع في هذه الناحية كثيرًا حتى لقبّ سلطان العلماء . ومما يشهد بسعة علمه ما تركه للأمة من مؤلفات كثيرة عظيمة القيمة ، عميقة الدقة في مادتها ، والتي ما زال الكثير منها للأسف مخطوطًا ولم يطبع بعدُ اذكر منها ( تفسير القران العظيم , مختصر صحيح مسلم , رسالة في علم التوحيد , لغاية في اختصار النهاية, احكام الجهاد وفضائله , الإمام في بيان أدلة الأحكام) . عين رحمه الله قاضيا وفقيها وخطيبا في المسجد الجامع بدمشق , واشتهر بجراته في الحق ، فلا يُذكر العز بن عبد السلام إلا وتُذكر معه الجرأة على كل مخالف لشرع الله ، مهما علا شانه ، وارتفعت بين الناس مكانته . وقد وُصف الشيخ (رحمه الله) أيضًا بالزهد والورع الشديدين ، كما وُصف بالبذل والسخاء والكرم والعطاء ، والعطف على المحتاجين ، مما يجعل من شخصيته (رحمه الله) نموذجًا رائعًا يُقتدى به في كل ميادين الحياة المختلفة.
حينما تولى الملك (الصالح إسماعيل الأيوبي) أمر دمشق – وهو أخو الملك الصالح نجم الدين ايوب الذي كان حاكمًا لمصر – , تحالف اسماعيل مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين ، وكان من شروط تحالفه معهم أن يتنازل لهم عن مدينتي صيدا والشقيف ، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق ، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر . وبالطبع اثار ذلك العالم الجليل العز بن عبد السلام ، فوقف يخطب على المنابر ينكر بشدة على الصالح إسماعيل ، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكًا شخصيًّا حتى يتنازل عنها للصليبيين ، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين ، وخاصةً أن المسلمين على يقين أن الصليبيين ما يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين . وهكذا قال (سلطان العلماء) كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل ، فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء ، ومنعه من الخطابة ، ثم أمر باعتقاله وحبسه تحت الاقامة الجبرية في بيته . فارسل الحاكم يوما بعض من اتباعه الى الشيخ يداهنه ويعده بالمناصب وغيرها إن ترك ما هو عليه ، ويتوعده إن استمر على ذلك؛ فكان مما قال له: “بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان ، وتقبل يده لا غير”!! فقال الشيخ: “يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً أن أقبـِّل يده ، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في واد ، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به , افعلوا ما بدا لكم”.
مع الايام ضاق الشيخ ذرعا بالإقامة الجبرية , فقرر مغادرة دمشق، فاتجه إلى مصر عن طريق بيت المقدس ، سنة 638هـ . فعينه الملك الصالح نجم الدين قضاء مصر والافتاء , والخطابة في مساجدها .
دخل الشيخ يوما على نجم الدين أيوب ( حاكم مصر ) في القلعة يوم العيد وهو في كامل زينته ، وجنوده بين يديه فناداه باسمه المجرد : “يا أيوب : ما حجتك عند الله إذا قال لك : ألم أبوِّئ لك مصر , فتبيح الخمور؟ فقال : هل جرى هذا؟! فرفع الشيخ صوته، وقال: نعم الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات ، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة . فقال: يا سيدي هذا ما عملته أنا ، هذا من زمن أبي! فأجاب الشيخ : أنت اذن من الذين يقولون: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} . فيأمر السلطان بإبطال الحانات .
تساءل الناس عن سر هذه الجرأة والشجاعة ، فسئل عن سر ذلك فقال: “استحضرت هيبة الله , فصار السلطان أمامي كالقط . اما قصة بيع الملوك فشان اخر , تعالوا نسردها لكم حسب ما ورد في الروايات التاريخية الموثقة .
كان الصالح نجم الدين أيوب طموحاً ، أراد أن يُقوِّيَ جيشَه للوقوف في وجه تحالفات الصليبين وتهديدهم للمحروسة ، فاشترى (من مال الدولة) المماليك (عبيد) الأتراك ، جلبهم من أواسط آسيا وغربها ، ودَرَّبهم على الفروسية والفُتوَّة والقتال ، حتى نالوا ثقته ، فاتسع نفوذهم حتى صاروا أمراءَ الجيش وقادتَه ، وحكّام الاقاليم المصرية وخاصة بعد انتصار الملك الصالح على الصليبيين , وبلغ أحدُهم أن صار نائب السلطان مباشرة ، فلما تولى العز منصب قاضي القضاة ، اكتشف الخلل في الإدارة والسلطة ، وأن القادة الأمراء لا يزالون في حكم الرقيق ,وهم ملك لبيت مال المسلمين ، ولم يَثبُتْ عند الشيخ أنهم أحرار ، وبالتالي فإن الحكمَ الشرعي عدمُ صحة ولايتهم من جهة ، وعدمُ نفوذ تصرفاتهم الخاصة والعامة من جهة أخرى . ومع ذلك ، فإن العز لم يُشهّر بهم ، ولم يرفع راية العصيان المسلح عليهم ، وإنما بلّغهم ذلك أولاً ، وأوقف التعامل معهم ثانياً ، «ولم يصحّح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً ، وتعطلت مصالحهم بذلك ، وكان من جملتهم نائب السلطان» فلما بلغهم ذلك عظم الخطب عليهم ، واضطرب أمرهم ، وثارت ثائرتهم، ولكنهم كبحوا جماح الغضب ، وجاؤوا للعز بالحسنى والمساومة ، واجتمعوا به للاستفسار عن مصيرهم في رأيه ، فصمم على حكم الشرع وأنه يجب بيعهم لصالح بيت المال ، ثم يتم عتقهم ليصبحوا أحراراً ، ثم يتولوا تصريف الأمور، وقال لهم بكل وضوح وصراحة: «نعقد لكم مجلساً ، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين ، ويحصُل عتقكم بطريق شرعي» ، فرفضوا واستكبروا ، رُفعوا الأمر إلى الملك الصالح أيوب ، فاستغرب من كلام الشيخ ورفضه . فلمّا وجد الشيخ أن كلامه لا يُسمع خلع نفسه من منصبه في القضاء ، وركب الشيخ حماره ليرحل من مصر ، فخرج خلفه الآلافُ من علماء مصر وصالحيها وتجارها ورجالها ، بل وخرجت النساء والصبيان تأييدًا له ، وإنكارًا على مخالفيه . ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح ، فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه ، فقال له الشيخّ : إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلا بد أن يباعوا أولاً ، ثم يعتقهم الذي يشتريهم ، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع من قبل من بيت مال المسلمين ، فلا بد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين .
وافق الملك الصالح أيوب ، فقيد الامراء بالسلاسل وعقد لهم مجلس بيع اشتراهم الملك الصالح واعتقهم ورد الثمن الى بيت مال المسلمين , ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يُعرف بـ(بائع الأمراء) .
هذه ــ يا سادة ــ قصة سلطان العلماء وبائع الامراء , العالم الفقيه المحدث العز بن عبد السلام الذي قال فيه الملك نجم الين ايوب : ان خطبة للعزّ بن عبد السلام امضي في عزيمة الجند من الف راية . هل عرفتم دام فضلكم الان الفرق بين سلطان العلماء وعلماء السلطان في عصرنا الزاهر , الذين يفصّلون خطبهم وفتاواهم على مقاس من يدفع اكثر . طبتم وطابت اوقاتكم .