أخر المستجدات
الرئيسية » مقالات » نشأة الحركة الصهيونية :-

نشأة الحركة الصهيونية :-

 

هشام عقل 

تواكبت الظروف السابقة مع بزوغ ظاهرتين جديدتين في اوروبا : الدولة القومية ,والإمبريالية. فمع التوسع الهائل الذي شهدته الرأسمالية بعد منتصف القرن التاسع عشر , دخلت القوى الأوروبية في صراع محموم على المستعمرات لفتح اسواق جديدة تستطيع فيها تصريف فائض إنتاجها والحصول على المواد الخام باسعار رخيصة . وفي هذا السياق نشا التيار القومي اليهودي , نشأ كرد فعل لفقدان الأمان والثقة في المجتمع الأوروبية,ولكنه في نفس الوقت كان ‘‘مرآءة‘‘لهذة المجتمع ومماثل له في التوجيهات . نادى القوميون اليهود بضرورة فصل اليهود عن سائر افراد المجتمع , واكدوا على ضرورة تنظيم اليهود ذاتياوبعيدا عن باقي التنظيمات الاجتماعية / السياسية الموجودة . ومن رحم معادة السامية وانتشار الفكر القومي والمد الاستعماري ولدت الصهيونية . وجاء اقوى تعبير عنها غلى يد الصحفي اليهودي النمساوي ثيودور هرتزل , مؤسس ‘‘ الصهيونية السياسية‘‘.
تمتع هرتزل يشهرة لا بأس بها في الاوساط الاوروبية لا سيما بعد تغطيتة لاحداث قضية ( دريفوس )بباريس عام 1894 م فقد اتهم زورا الكولنيل اليهودي الفرنسي البرت دريفوس بالعمالة لالمانيا . وفجرت فضيحة اتهامه الغاما ّ من القضايا الحرجة والشائكة في المجتمع الفرنسي , مثل معادة السامية والفساد . وتمت إعادة محاكمته وتبرئته بعد اندلاع حملة تضامن قوية بدأها الكاتب الفرنسي – غير اليهودي – اميل زولا , ونشرها التيار الاشتراكي في انحاء اوروبا . وجاءت البراءة كضربة موجعة لليمين الفرنسي والكنيسة الكاثوليكية والمؤسسة العسكرية الفرنسية . فماذا كان ر د فعل هرتزل تجاة ما حدث؟ كتب يقول في مذكراته :
في باريس اتخذت تصرفاتي طابعا متحررا تجاه معاداة السامية التي بدأت أفهمها في سياقها التاريخي واتفهمها . وفوق كل ذلك ادركت عبث محاولو مقاومة معاداة السامية .
يعد ‘‘ تفهم‘‘ هرتزل لمعاداة السامية الفرضية الأساسيهالتي تنطلق منها الصهيونية . فالصهاينة يرون ان معاداة السامية شيء ازلي وانه لا يمكن حدوث توافق بين اليهود وغير اليهود .في كتابه ‘‘ دولة اليهود ‘‘أكد هرتزل على ان اليهود الذين سينجحون في الاندماج في المجتمعات الاوروبية هم الاغنياء فقط, ونبه الى خطورة الجرة اليهودية الضخمة الاتية من الشرق وعن حتمية تسببها في مشاكل لأثرياء اليهود . كما عبر عن قلقه إزاء انخراط اعداد واسعة من الشباب اليهودي في الحركات الاشتراكية الثورية . ورأى هرتزل أن حل المسألة اليهودية هو ان يتم تهجير اليهود خارج اوروبا ,وإقامة دولة لهم تتمتع برعاية إحدى القوى الإمبريالية الأوروبية .
شهد عام 1897 م انعقاد اول مؤتمر صهيوني في مدينة بازل السويسرية بحضور 200 عضو من 17 دولة , وتم الإعلان عن ولادة ‘‘المنظمة الصهيونية العالمية‘‘واتحه هرتزل بمشروعه يدق ابواب جميع الدول الاستعمارية , بما فيها اشد الحكومات معاداة للسامية !فحاول ان يفاوض السلطان العثماني , والملك الإيطالي ايمانويل الثالث , وقيصر المانيا , والحكومة البريطانية . بل ووصل به الى مفاوضة فياشسلاف فون بليهف وزير داخلية رةسيا القيصرية ومدير إحدى ابشع المذابح ضد اليهود في الإمبراطورية الروسية غام 1903م!!.
وعلى عكس ما يشاع اليوم عن وجود مخططات توراتية / يهودية قديمة للسيطرة على القدس في اطار حرب دينية ضد الإسلام , لم يكن هرتزل مكترثا بموقع الدولة اليهودية الاستيطانية , إذ فكر في اقامتها في شبه جزيرة سيناء
, منطقة العريش, اوغندا , جزيرة قبرص , الكونغو البلجيكي , موزامبيق, العراق , ليبيا , او فلسطين . فقد كان العامل الرئيسي المؤثر في اختياره هو المصالح الإمبريالية ومدى موائمة الموقع المختار معها . ولم يحاول هرتزل إخفاء الطبيعة الاستعمارية لمشروعه الصهيوني , فمثلا أثناء التفكير في اوغندا كموقع للدولة اليهودية كتب في رسالة لصديقه الحميم ماكس نوردو يقول انه ينبغي على اليهود
ان ينتهزوا الفرصة المواتية ليصبحو انجلترا صغيرة ….. لنبدأ بالحصول على مستعمراتنا أولا, وبقوة هذه المستعمرات سنقوم بغزو وطننا . ولتكن الأرضالتي تقع بين الكلمنجارو وكينيا اولى مستعمرات إسرائيل . وليكن هذا هو الأساس الذي يقف عليه صهيون .
في سعيه لإقامة دولته الاستيطانية دعا هرتزل الحركة الصهيونية لإتباع نفس أساليب الدول الاستعمارية , فاقترح إنشاء شركة يهودية على غرار الشركة الاستعمارية البريطانية – مثل شركة الهند الشرقية – لتكون طليعة استيطانية وتمهد البنية التحتية الأساسية للدولة الجديدة وأكد مرارا عند تعريفه للصهيونية ب- ‘‘ انها فكرة استعمارية‘‘. ولاحقا كتب الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان أنه لو لم توجد فلسطين لكان من الضروري خلقها من اجل مصلحة الإمبريالية.
الإمبريالية والصهيونية : –
لم تتفق الحركة الصهيونية على اختيار القوة الإمبريالية التي ستلجا لها , او حتى موقع الدولة الاستيطانية الجديدة. فقد نشأت فصائل واجنحة متنازعة بداخا
ل الحركة ؛ نادى بعضها ببريطانيا كقوة حامية للمشروع الصهيوني, في حين فضل البعض الآخر المانيا او فرنسا او الإمبراطورية العثمانية .نفس الشيء بالنسبة لموقع الوطن القومي , فقد طالب فصيل بفلسطين , في حين نادى آخرون بإقامة الوطن القومي في اوغندا , ورأت بعض الفصائل الأخرى ليبيا والعراق والكونغو كبدائل مناسبة ايضا . فقد انتصر التيار الذي تزعمه حاييم وايزمان – رئيس المنظمة الصهيونية العالمية آنذاك – المنادي بالاستعانة ببيريطانيا إثر خروجها بعد الحرب العالمية الاولى كأقوى دولة إمبريالية في العالم . وكانت بريطانيا قد بدأت تتحمس للمشروع الصهيوني في فلسطين منذ اواخر القرن التاسع عشر ’ووجدته ملائما لمصالحها الاستعمارية في الشرق . فوجود دولة يهودية عميلة في الشرق الاوسط اصبح ذا ضرورة قصوى لحماية مصالحها في تلك المنطقة المشتعلة بحركة وطنية عنيفة بمصر وحركة قومية عربية ثورية بالشام .
فستقوم تلك الدولة العميلة بحماية خطوط الاتصال والسكك الحديدية التي تربط بين ارجاء الإمبراطورية البريطانية , وسنتعمل على تامين قناة السويس – اهم طرق ملاحي يربط بين الشرق والغرب . وازدادت بريطانيا هرولة تجاة المشروع الصهيوني مع بدء طهور اكتشافات بترولية في بلاد فارس (ايران) التي كانت من القلال وعدم استقرار سياسي . بالاضافة الى ان وجود اليهود ‘‘الأوروبيين ‘‘ف تيلك المنطقة سيفتح سوقا جديدا واسعا للمنتجات الاوروبية .
ولم يحسم الأمر سوى ذلك الرعب الشديد الذي شعرت به الطبقة الحاكمة البريطانية , وباقي الطبقات الحاكمة الاوروبية تجاة التحولات الثورية التي كانت تحدث في روسيا في عام 1917م .فقد اوضحت جليا شرارة الثورة الاولى في شهر فبراير إمكانية تطور مجريات الأحداث الى ثورة اشتراكية تهز دعائم الحكم في اوروبا والعالم . وبالتالي اصبح دعم الحركة الصهيونية ضرورة ملحة لسببين :-
اولا : الصهيونية بطابعها الرجعي والمضاد للثورة قد تكون قوة مساعدة على احتواء العمال اليهود الأوروبين الذين انخرط مئات الآلاف منهم في صفوف مختلف الحركات الاشتراكية الثورية .
ثانيا : أصبح ضروريا إنشاء دولة تلعب دور ‘‘قاعدة للإمبريالية ‘‘ في الشرق الاوسط لاحتواء توابع المد الثوري ومنع انتشاره في تلك المنطقة . وليس مستغربا إذاَ ان يصدر ‘‘ وعد بلفور ‘‘ المؤيد لإنشاء وطن بديل لليهود بفلسطين في 2 نوفمبر 1917م – عشية الثوره البلشفية . وقد تكلم اللورد ونستون تشرشل عضو البرلمان البريطاني – والذي أصبح لاحقا رئيسا للوزراء – مدافعا عن وعد بلفور بقوله أن إنشاء دولة يهودية تحت التاج البريطاني يعد مفيدا للغاية من جميع الجوانب , ومتوائما مع مصالح الإمبراطورية البريطانية – التي من اهمها تدمير مخططات الثوري الروسي ليون تروتسكي الرامية لإقامة دولة شيوعية عالمية يسيطر عليها اليهود ويفوح كلام تشرشل هنا فقط برائحة صهيونية نتنة ؛ بل رائحة معادية للسامية أيضا.
اللوبي اليهودي ؟
لقد كان إصدار وعد بلفور – كما اسلفنا – نتيجة لحسابات ومصالح إمبريالية للإمبراطورية البريطانية , وليس نتيجة ل – ‘‘سيطرة اليهود‘‘ على الاقتصاد او الإعلام البريطاني آنذاك . فعلى العكس , كانت الجالية اليهودية في بريطانيا في ذلك الحين ضئيلة الحجم , ومندمجة لحد كبير في المجتمع البريطاني , بل وسيطر على اغلبيتها اتجاه معادي بشدة للصهيونية . في حين كان اليهود بالمانيا آنذاك أكثر عددا . وشغلو مناصب حكومية مهمة ,واحتلو مواقع اقتصادية استراتيجية فسيطروا على اكبر ثلاثة بنوك المانية , وتواجد العديد منهم في الأوساط الإعلامية والفنية والسياسية الحزبية . وكان للحركة الصهيونية في بدايتها ‘‘ توجهاالمانيا ‘‘ فكان مقرها في برلين , وكانت لغة مؤتمراتها الرسمية هي الالمانية , وكانت القيادات الصهيونية تواقة لجعل مشروعها ضمن إطار المشروع الاستعماري الألماني.
إذا طبقنا نفس الرؤية السائدة اليوم – التي ترجع انحياز أمريكا لإسرائيل بسبب ‘‘سيطرة اليهود‘‘ على الاقتصاد والإعلام هناك – على حالة وعد بلفور , فكان سيكون من المنطقي إذن أن يستصدر الصهاينة وعد بلفور من المانيا وليس من بؤيطانيا حينئذ ! ولكن ذلك لم يحدث . فالدول الإمبريالية تحدد تحركاتها وتحالفاتها طبقا لمصالح دولتها الاستعمارية . ففي وقت صدور وعد بلفور , كان المشروع الصهيوني في تناقض مع مصالح الإمبريالية الألمانية المرتبطة بتحالفات مع الولة العثمانية – التي كانت فلسطين إحدى ولاياتها . وبالتالي لم يكن من الممكن للألمان – بالرغم من ‘‘السيطرة اليهودية‘‘ المزعومة – إصدار وعد للصهيانة بإعطائهم فلسطين لأن هذا كان سيكون على حساب تحالفاتهم مع العثمانين . ولكن الوضع مختلفا بالنسبة للإمبريالية البريطانية : إذ كانت متحالفة مع الدولة العثمانية حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى , وبالتالي كان اول موقع للوطن القومي اليهودي يعرضوه على الصهاينة في شرق أفريقا (اوغندا) – أي خارج نطاق الدولة العثمانية , ولكن بدخول بريطانيا الحرب ضد العثمانيين , واعتزامها تقسيم الدولة العثمانية , ( بالإضافة للمكاسب الأخرى التي ذكرناها في الجزء السابق) أصبح من الممكن إصدار وعد بلفور وإعطاء فلسطين للصهاينة .
تأييد جماهير اليهود للصهيونية ؟!
من الأمور المثيرة للسخرية أنه مذ نشأة الحركة الصهيونية وحتى الحرب العالمية الثانية تمتعت الحركة الصهيونية بتأييد ضئيل للغاية بين الجماهير اليهودية , إلى الحد الذي دفع وايزمان للاعتراف بأن
وعد بلفور كان مبنيا على الهواء , أنه عام 1927م كان يرتعد خشية أن تسأله الحكومة البريطانية عن مدى تأييد اليهود للحركة الصهيونية , فهي كانت تعلم أن اليهود ضدنا ….. كنا نقف على جزيرة صغيرة , مجموعة صغيرة من اليهود لهم ماض أجنبي .
فضلت الغالبية العظمى من يهود العالم البقاء في اوطانهم وعدم الهجرة الى فلسطين . وتحت ضغوط الذابح والقهر كانت أقلية منهم هي التي تهاجر الى فلسطين , في حين كانت الأكثرية الكاسحة تفضل الهجرة الى امريكا الشمالية. ففي الفترة (1880-1929م) هاجر 4 ملايين يهودي من اوروبا الشرقية ….. اتجه حوالي 120 الف منهم إلى فلسطين , في حين أتجه اكثر من 3ملايين إلى الولايات المتحدة وكندا . وفي عام 1914 كان عدد اعضاء المنظمات الصهيونية في امريكا حوالي 12الف عضو , وهو ما كان يعادل عدد الأعضاء اليهود فقط في فرع الحزب الأشتراكي بمنطقة لور إيست سايد في حي منهاتن بمدينه نيويورك !

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.