أخر المستجدات
الرئيسية » أدب الكتاب » قصة المكالمة الأخيرة

قصة المكالمة الأخيرة

الجزء الأخير
رشيدة محداد

أسدلت سعاد ستار الألبوم المشؤوم،وهي تهنئ نفسها على قوة شخصيتها، وقدرتها على استقبال مولود جديد، يحبو بحياتها ،حتى أنها تكاد تحسم أن جموع موازين ،صفقت ذاك اليوم لهما،وانهما كانا ضيفا مهرجان الصخب !
لا ضير ان يكون صخبا بحياتها، معتصرا كل المشاعر الميتة بلحظة ذهول ..
وزعت نظرات أخيرة مستعجلة على شكلها وتسريحتها الجديدة، وساعتها الراقصة، ثم غادرت فصل خريف نحو ربيع احتضنهما بموعد مسبوق ، ظهر فيه طارق بابهى حلة كلاسيكية سوداء ،تخلى فيها عن ربطة العنق وكأنه يود أن يتحرر من صمته ،ليعلن بعد التصفيق ، أن سعاد خمرة معتقة أدارت راسه فغيرت كل معتقداته..
وللحظة، شعرت سعاد أنه يلبسها روحا سامية ، كانت تتأمل جبهته العريضة ،وكأنها تحاول أن تقرأ قدرهما المتخفي بين السطور..فتبتسم على ايقاع موسيقى هادئة حملت حروف طارق وكانها تسمعه لأول مرة :
– وش بيك متهضريش !
وكأن أذناها شاختا بموسم مبكر ، فسقطت منها الحروف..ولم تتمكن من استيعاب ما سمعت !
– لكنتك…! أأنت جزائري !؟
_..ايزعجك ذلك !
تلعثم الوقت بساعتها فتوقف ! وتسارعت النغمات الهادئة صارت صخبا وهرجا ! و انهارت دقات القلب تحت رجليها وهي تتذكر قصة جدها الذي حرم من حبيبته الجزائرية ،قبل زواجه التقليدي بابنة خاله.. كان يسافر الى “السعيدية” المغربية بحدود الجزائر ، مكتفيا بالتطلع اليها وتبادل كلمات شوق تطيرها ريح الحدود… إليها، وهو بالكاد يسمع صوتها المتقطع ،مغادرا بعد ساعة من لقاء تحت الحراسة، وكأنهما بسجن..وهو لا يدري أن هذا السجن سيسكن قلبه..الى الأبد حيث سيحرم من رؤيتها بيوم تخلفت فيه عن الموعد..فاختفت ……إلى الأبد !
أي قدر وأي تاريخ هذا الذي يحاول أن يعيد نفسه، مع الأحفاد ! لقد نبت حقد جدها على قاتلي قلبه، فصار يضمر كرها لكل جزائري، معتقدا أنه ساهم بشكل أو بآخر في طمس حياة لم يكتب لها..أن تخرج للوجود..
وسط الذهول أتى صوت طارق يركب كل الأصوات الشاذة بالساحة:
-انا من أسرة مثقفة شبه محافظة، أعمل مهندسا متنقلا بالمغرب، الشركة التي أعمل بها ستنهي اعمالها بآخر شهر “تموز”.ارتحت لك وارى انك ستكونين لي زوجة مناسبة…فما رأيك ؟!
رأيها..ماذا وكيف تخبره أن أهلها سرت بدمائهم حكاية الجد المعذب، وكيف تخبره بقصة قنينة الغاز التي جلبت لها الخطيئة ! انحدرت دمعة هاربة من موطن الألم ،فجثا طارق على ركبتيه يحاول ان يستوعب ما يجري..علها دموع الفرح…؟
-مستحيل…!
هكذا جاء صوت سعاد مترنحا متقطعا ، فامسك بذراعها مغادرا ساحة المهرجان ،إلى أقرب مقهى صادفه بطريقه….
احتوتهما طاولة مستديرة ،حاولت أن تمدد عليها قدرها العابث ، من قنينة الغاز..الى معاناة جدها الحاقد !وان تنتظر ردة فعل توقعتها…..او هكذا خيل إليها !
انتفض طارق ..وقبل ان يغادر المقهى…..
كلل المقهى بجملة دارت طويلا براس سعاد…وبقلب المكان:
-انتظري ..مكالمتي ..قريبا !
كانت الطفلة التي أهداها أخاها الأكبر “علبة شوكلاطة” فاستمتعت بشكل الورق الملفوف حولها ،والألوان المتجانسة الوردية، قبل ان تفتحها ..وقد هيأت من قبل طريقة مختلفة، لأكلها ..مقدمة فاخرة تليق بقارئ مثقف لا تستهويه الحروف التقليدية ، ولا تلك اللهفة التي تنقض على الشريط الأحمر قبل تمزيق العلبة..!
كانت الطفلة التي اشتهت شكولاطة من السوق السوداء….!! هكذا…كانت علاقتها بطارق..(.الشكولاطة الممنوعة …!)
وها هي ذي الآن بصالون نسائي ، تسلم رأسها لمقص يعيث فوضى بخصلات شعر ضحية فتاة تخلع ذاكرة الأمس..والحاضر…بعملية مقايضة….
لم تتوقف عبارة طارق برأس سعاد منذ ذاك اللقاء، حين ختمه بكلمة لم تدر أنها ستكون سجان ذاكرتها…
-إنتظري مني مكالمة…قريبا !
وحده المقص الذي كان يعري تفاصيل الألم..والانتقام..والنشوة !
كانت تقصه من حياتها..تعريه..فتكرهه أكثر ..فتنتقم لنفسها..ومن نفسها…
من الغباء إنتظار مكالمة صفراء ..باهتة..كاذبة..من الغباء ان تبقيه بذاكرتها بعد الإعلان عن خطيئة ..وحقد لما وراء الحدود !
انتهت عملية القص والقصاص، وبدأت عملية نقل أغراض بحقيبة سعاد، برحلة نقل جذور تزرعها بمكان آخر، تهرب فيه من رباط “الخيل” وجموحها وسقوطها…
رن الهاتف وكأنه صهيل خيل يأبى استئصاله من العروبة والأصالة…
-سعاد..أنا طارق….!
مزق الصمت بعد الإسم جدار البيت والصهيل..وترنحت سعاد تستعد لخبر ما بعد العاصفة…وعاد الصوت:
_سعاد….اعلم انني تأخرت بالاتصال بك…لكن…كان ذاك خارجا عن إرادتي….
على أي…أعلن ان هذه المكالمة ستكون الأخيرة…..
فمن الآن فصاعدا…حديثنا سيكون مباشرا ..!
وما تأخري بالاتصال بك الا لأمر يخصنا معا…كنت أجهز اكبر مفاجأة ستجمعنا معا..وقد صارت جاهزة الآن …..
لم تستوعب سعاد من كلام طارق الا المكالمة الأخيرة…وغابت عن الوعي…عندها !
وكان طارق في الطرف الثاني، يحادث نفسه، وهو يكاد يخترق حرارة الهاتف…….
كنوع من الرسم..كانت سعاد تشبع طارق تفاصيل ريشتها بلوحة وجهه ..حين استفاقت من غيبوبة لم تدر كم من الوقت غيبتها عن حوار المكالمة..وبنوع من الوجوم تسمرت لدقائق تحاول ان تستوعب تواجد طارق ببيتها..ومن الذي فتح له الباب …
لاح جسد الجد مترهلا من وراء باب البيت وهو يرمي المفاتيح على حافة السرير..ويطبع قبلة دافئة على جبين سعاد …
_مفاجأة طارق..! …أنا…جدك !
هذا الشاب أنا….بزمن كنت اسعى لاختراق الحدود..نحو قلب خفق بعيدا، وغادرني دون ان يودعني ….
هذا الشاب…قلب مغربي..بعروق مغربية …وبطاقة هوية تحمل خاتما عربيا …من المحيط..الى الخليج…
مالا تعرفينه سعاد..ان طارق…عاش بالجزائر..لكنه لم ينس جذوره المراكشية
مبروك …سعاد…صار بالعائلة….طارق..(يضحك مازحا…)
انتهى….

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.