أخر المستجدات
الرئيسية » مقالات » مارقون… بقلم .. /سناء تيغار

مارقون… بقلم .. /سناء تيغار

مارقون..
تنطلقُ السَّيّارة تقلُّنا إلى حماه، أجلسُ صامتةً شاردة؛ فإذابي أخلعُ ثوبَ الأمِّ والجدَّة والزّوجة والمعلّمة بعد خروجي من بانياس، وأرمي كلّ مسؤولياتي وواجباتي وهمومي، فأرتدي فستانيَ القصيرَ المزركشَ الجميل الّذي أحبّه ، وتتراقصُ جديلتان بشرائطَ حمراءَ على ظهري، أضحك… أقفز… أُسرِعُ الخَطو.
على مشارفِ مدينتي يقفزُ قلبي، وأعودُ تلكَ الصَّبيّةَ الصَّغيرةَ الجميلةَ المراهقة، الّتي تعتقدُ أنَّ عيونَ الناس تراقبها معجبة.
أنظرُ هنا وهناك، وأوزِّع ابتساماتي وكأنّي أقولُ لهم: “أتيتْ.. أحبُّكم جميعا”
أَلِجُ الدّار دونَ أنْ أرنَّ الجرس، أصعدُ كلَّ ثلاثِ درجات، أصل.. أقف أمام الباب، وأرمي حقيبة سفري. أناديها مبتهجة ضاحكة: ها أنا…
تضحك ضحكتها الحنون قائلة مرحّبة:”أهلااااااا ..سناااااااء أنت هنا؟”
تجلسُ على الكنبة الملاصقةِ لنافذتِها المُطّلة على الشّارعِ الرّئيسي.
أدخلُ بلهفةٍ أقبّلُ يديها وأحضُنُها…
يا الله ماأحنَّ ضحكتَها!
ثمّ أفتحُ أبوابُ الغرفِ، وأقف على عتبتها…
أُسلِّمُ على البيتِ كلِّهِ والجدران، حتّى الحمَّام.
أدخلُ المطبخَ أفتِّشُ فيه، أضعُ رأسي داخلَ ثلّاجتهِ مناديةً: ماذا طبختُمُ البارحة ؟؟ماذا ستطبخونَ اليوم؟؟أسأل وأسأل وأثرثر…
أخرجُ إلى الشّرفات، أرقبُ محلّات جيراننا في السوق، وأحادثُ أمّي وهي تراقبني .
أمي أين جارنا أبوعلي، وأبو محمد صاحب الوجه السمح لاأراهما في محلاتهما ..؟
“الأوّل مريض والثّاني توفي، وجاء شابّانِ غريبانِ واشتريا المحلّين”
أمّي لاأرى جارتَنا أمّ حسن على الشّرفة، هل تأتي لزيارتك..؟
“البارحة كانت عندي ”
بيتُ خالي نوافذُه مغلقةٌأينَ هم ؟
بعدَ اسشتهادِ زوجيِّ ابنتيهما؛ يقيمونَ عندَ هذه بضعةَ أيّام وعندَ الأخرى مثلها.
أمّي !!
متأففة “نعم؟؟”
أم محمود كيف صحتها ..؟؟
“هي في المشفى تنازع، ونحن ننتظر دورنا”
أرجوكِ لاتحكي هكذا …لاأستطيع سماعَ هذ هِ الكلمات.
أمّي! لمَ شُجيراتُ الزّنْزرَخْت والدّفلى كئيبة، ذابلة؟؟
“البلديّةُ لاترشُّ لها الماءَ لقلّته”
لمَ لايسقيها أصحابُ المحلّات التّجاريّة، كيف يرونها تموتُ ويسكتون؟؟
“تغيّرتِ النُّفوسُ ياابنتي”
أمّي!! لمَ لاأشمُّ عطرَ الياسمينةِ والحبقِ والوردةِ الجورية؟
لاأرى بائعَ المُشَبَّكِ والذُّرةِ المسلوقةِ الّلذيذة، ولاأسمعُ تلكَ الأغاني الشّعبيّةَ التي كانتْ تملأُ الحيَّ عذوبة، كنّا نعلمُ بمجيْئِهما عندما نسمعُها؛ فنركضُ ونشتري ..يا الله ياأمّي! أين هما؟
أمّي!! ماهذهِ الوجوهُ الغريبةُ في الشَّارعِ، أشكالهم لاتريحني ..أينَ النّاسُ الطّيّبون لاأرى أحداً منهم؟ مَنْ هؤلاء؟
“لانعلم مَن هم، دخلوا المدينة ليلاً وأقاموا فيها”
وصلتُ آخرَ الشّرفة، صرختُ بصوتٍ حزين،أمّي؟!!
أسمعها تهمسُ لأختي: “في كلِّ زيارةٍ لها تحزن وتبكي”
النّهر؟؟شجرةُ الصَّفصاف ؟؟أرجوحتي؟؟؟!! ماالذي حصل؟
“النّهر! جفّتْ مياهُهُ حزناً على أُناس غادروا كانوا رفاقَه أطفالاً”
“شجرةُ الصَّفصَافِ! جاؤوا في ليلةٍ حالكة مظلمة، فأحرقوها والأرجوحة”
يهدأُ ضجيجُ فرحي ويسكنْ.
أدخلُ والدّمعة في عيني.
“هل أتيتِ لتحزني؟”
“هل أُوقِظُكِ صباحاً لتشربي القهوةَ معي؟؟
مابكِ ..لمَ كلُّ هذه التعاسة؟
لمَ الدموع ياابنتي؟؟
ماذا نجهّزُ لك اليومَ من الطّعام الّذي تحبّين؟
لاأريدُ طعاما.ً
أريد شيئاً آخر افتقدته…
بقلم /سناء تيغار

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.